نواصل إلقاء الضوء على أفكار الكاتب الكبير زكى نجيب محمود (1905 – 1993)، الذى يعد من أبرز المثقفين المصريين والعرب فى القرن العشرين، ونتوقف اليوم مع كتابه “قصة الأدب فى العالم” والذى صدر فى عام 1943.
يقول زكى نجيب محمود تحت عنوان “نشأة الأدب” لا بدَّ أن تكون الأفكار، وهى أحد عناصر الأدب، قد أُنشِئت قبل أن تُدوَّن بزمانٍ طويل، فقد كان آباؤنا الأولون الذين سَكنوا الكهوف يجلسون حول النار يستدفِئون، ثُم يأخذون فى قصِّ الأقاصيص حولَ ما صادفَهُم من الحيوان فى صَيد النهار، وما وقعَ لهم مع جيرانهم من ضروب القتال والنِّزال، ولا بدَّ أن يكون أولئك الآباء قد أنشئوا القصص حول آلهةِ الأنهار والأشجار، ومَن ذا يشكُّ فى أنَّ القوم كانوا بعد عناءِ النهار يجلسون فيُنشدون الأناشيد، وأنهم كانوا يُلقِّنون الأبناء حكمة الآباء؟ صنعوا ذلك فوضَعوا أساس الأدب، بل وضعوا كذلك أساس القانون والأخلاق والدين.
إنَّ هذا الذى نزعُمُه قائم على أساسٍ متين من الشاهد والبُرهان، فأولًا: ليست أقدَمُ القصص المكتوبة التى وصلت إلينا صبيانيةً فارغة، بل مملوءة بالحكمة وتجارب الأيام، ولا يمكن للإنسان أن يخلُق مثل هذه القصص بين عشيةٍ وضُحاها، بل لا بدَّ لها من قرونٍ طوال تنشأ فيها وتنمو.
وثانيًا: لا يزال يعيش فى أنحاء الأرض هنا وهناك أقوام من البشر، فى طَور الجاهلية الأولى، فهم لذلك يُشبهون أولئك الأسلاف الأوَّلين؛ ولهؤلاء الأقوام قصص وقوانين يَرِثونها جيلًا عن جيل، من غير تسجيل؛ فالأرجح أن يكون أسلافُنا كهؤلاء: فكَّروا وعبَّروا قبل الكتابة والتدوين.
إذن فقد لبِثَ الأدب زمنًا طويلًا يعتمِد على الرواية قبل أن يعتمِد على الكتابة، ولا يزال الجبليُّون الأجلاف فى أمريكا يُردِّدون القصائد الطوال التى هبطَتْ إليهم من أجدادهم النازِحين من إنجلترا فى ماضٍ بعيد. ولقد قام بعض العلماء بمُقارنة ما يُنشِده هؤلاء الجبليُّون من القصائد بأصلِها، ليَرَوا كم أصابها من التَّلَف حين اجتازت هذا الشوط البعيد فى ذاكِرات الحافظين، فوجدوها مُحتفظةً برُوحها الأولى، وإن يكن قد أصاب ألفاظَها تبديل يَسير. وكلنا يعلَم كم ظلَّ الأدب العربى يرويه اللسان ولا يكتُبُه القلَم، وحسْبُنا ذلك دليلًا على أنَّ الأدب قد يزدهِر بين قومٍ لا يكتبون.
وإذن فلم تخلُ حياة الإنسان من أدبٍ فى مرحلةٍ من مراحلها؛ غير أنَّ الإنسان قد أنشأ الشِّعر وأنشده قبل أن يكتُب نثرًا فنيًّا؛ فالشِّعر لغة الوجدان والنثر الفنى لغة العقل. وإنَّ الإنسان ليشعُر بوجدانه قبل أن يُفكِّر بعقله.
فالهمَجى الذى عاش قبل التاريخ عاريًا فى الغابات، يتسلَّق أشجارَها ويقفز بين أغصانها صائحًا: «را، را، را، بو، بو، بو» هو الواضِع الأول لأساس الشِّعر المنظوم، فقد أخذت هذه الصيحاتُ الأولى تُصاغ فى أناشيدَ قبل أن يبتكِر الإنسان ألفاظ اللغةِ للتعبير عن أفكاره؛ حتى إذا ما جاء طَور اللَّفظ، كانت قد أُعِدَّت قوالب الشعر وأوزانه، فانصبَّ فيها اللفظ الجديد، فكان منه شِعر منظوم مفهوم، بعد أنْ كان الشِّعر صيحاتٍ يمرحون بها فى الرقص، ويهتفون بها فى الغضب، ليَهُبَّ الناس للقتال، ويُناغمون بها وقْع المجاديف فى الماء، أو وقْع أقدام الإبل فى الصحراء.
كان الشعر — إذن — أول مراحل الأدب، فلمَّا سارت الإنسانية فى طريق المدنية شوطًا، وبلغتْ حدَّ الترَف والفراغ، هدأتِ العاطفة الحادَّة بعضَ الشيء، وزاد التفكير المُنظَّم، فلمَّا عبَّر الإنسان عن تلك الأفكار جاء تعبيره نثرًا. ولسْنا بالطبع نَعنى بهذا أنَّ الإنسان بدأ يتكلَّم شعرًا بل هو بدأ يتكلَّم نثرًا غيرَ فَنِّي، ولكنه لمَّا أراد أن يُعبر عن عواطفه بطريقةٍ فنية عبَّر عنه شعرًا ثُم نثرًا فنيًّا، كما أنَّا لا نعنى أنَّ الشعر ظهر ثم زال ليُفسِح المجال للنثر الفني، بل إنَّ الإنسان — فى كل عصرٍ حتى فى عصر المدنيَّة — كلَّما جاشَ صدرُه بالعواطف الحادَّة لجأ إلى الشِّعر، وقد يُزخرِفه بمُحسِّنات صناعية تجعل للألفاظِ والأنغام وقعًا فى آذان السامعين، فقد ظلَّ الشِّعر ألوفًا من السنين يُقرَض ليُنشَد فى صوتٍ مسموع، لا ليُقرأ فى صمتٍ على ورقٍ مطبوع؛ فكان الشاعر بمثابة المُمثِّل، يتفنَّن فى إخراج اللفظ ليبلُغ الغاية فى امتلاك القلوب.
المصدر: اليوم السابع