ادب الرواية

فدوى عبد الرحمن تكتب: عبقرية المكان والتاريخ رحلة فى رواية “أولاد الناس”

هل يسير التاريخ فى خطوط مستقيمة نحو مستقبل أكثر تطورًا، أم هل تدور أحداثه فى دوائر أو كما يقول الفيلسوف الشهير نيتشه فى نظريته عن العود الأبدى: “كل ألم، وكل فرح، وكل فكرة، وكل زفرة، وكل شىء صغيرًا كان أم كبيرًا فى حياتك ما هو إلى إعادة لما جاء قبله” وعلى هذا تستمر الأشياء فى صيرورتها معتمدة فى وجودها على التكرار. لا تستطيع حين قراءتك لرواية أولاد الناس للأديبة ريم بسيونى، الصادرة عن دار نشر نهضة مصر، إلا أن تفكر فى نظرية العود الأبدى وأن توقن أن الأشياء مهما اختلفت تظل واحدة.

تتناول بسيونى فى ثلاثيتها ثلاث حكايات أولها تقع أحداثها عام 1309م والثانية عام 1388م والثالثة ما بين عامى 1517-1522م وتجمع الحكايات الثلاث حكاية معاصرة هى حكاية الأثرى حسن عبد الوهاب الذى عثر على اسم مشيد العمائر محمد بن بيليك المحسنى الذى بنى جامع السلطان حسن الشهير وأوصى ابنته حين وفاته بتتبع رواية إنشاء مسجد السلطان حسن وما شهده هذا المسجد من أحداث جسام، لا تلتزم الابنة بالوصية ولكن الحفيدة تتتبع الحكاية وتنشرها لنتعرف من خلال حكاياتها على لمحات من تاريخ مصر المملوكى والحاضر والماضى ما هما إلا دوائر ندور فيها ولا سبيل إلى معرفة أحدهما إلا بمعرفة الآخر .

تتجسد فكرة التكرار والعود فى تصميم الحكاية وشخصياتها ففى كل منها تتكرر حكاية المرأة قوية الشخصية، المتعلمة، الحكيمة بالرغم من صغر سنها، امرأة كما يصفها الأمير محمد “تتفوق على كل الرجال فى ذكائها ومعرفتها، تتكلم كالقضاة، وتحاور كالتجار”.

على الرغم من إجبارها على الزواج ممن لا تطيق أو أسرها كجارية كما فى الحكاية الأخيرة تكون لها فى النهاية الكلمة العليا بإنفاذ مشيئتها حتى وإن تظاهرت بالخضوع والانقياد لمن حولها.

أما شخصيات الذكور فتبدو فى البداية قاسية متجبرة لا تعرف المشاعر ولا تجيدها. ولكن الرجل، سواء كان الأمير محمد أو قاضى قوص أو الأمير سلار، يخفى وراء قوته وقسوته البادية قلب حانٍ ينبض بالحب حتى وإن قاومه أو حاول مقاومته كمظهر من مظاهر الضعف الإنسانى.

تتكرر أيضًا تيمة المقاومة والكبرياء والقدرة على الوقوف فى وجه الظلم من الأمير محمد الذى قضى نحبه وهو يدافع عن حق الناصر محمد فى حكم البلاد، إلى الشيخ عبد الكريم الذى مات فى السجن بعد موت السلطان محمد الناصر، وحفيده عمرو قاضى قوص الذى تحدى الوالى وصمم على محاكمة ابنه بتهمة قتل ابن الغلابة، والأمير سلار الذى صمم على محاربة العثمانيين ولم يتوقف عم المقاومة حتى فقد قدمه” وكأن هذه الأرض المباركة لا تتحمل العدل كثيرًا ولم تعتده، وكأن العالم لا يستقيم للأبد، والنهايات أصعب من البدايات”.

ويبزغ فى كل حكاية من الحكايات الثلاثة شعب مصر بطلاً يكلله الصبر، وينتقل من ازدهار واستقرار قصيرين إلى معاناة الظلم والجباية وقهر المماليك ومن بعدهم العثمانيين وصراعاتهم، ويرزح تحت هجمات الصليبيين والمغول ووطأة الأمراض والأوبئة والفقر، والمصريون فى كل الأحوال صابرون يحاولون التعايش فى “انتظار نهاية الحروب.. ليخرجوا إلى الشوارع، ويأكلون الحلوى على ضفاف النيل”. يأتى المماليك من كل صوب وحدب ويكون ولاؤهم الأول للبلاد والدفاع عنها، ثم يتزاوجون ويكون نسلهم من أولاد الناس الذين يختلطون بالمصريين ويتزوجون منهم وينصهرون فى بوتقة هذه الأمة التى لا “تسير على طوع هوى سيدها، مصر(التى) تستعصى على الخائن وحتى على المخلص.

تمتاز الحكاية الثالثة بتعدد الأصوات بها حيث تتكون من شهادات لشخوص شتى، فمن سلار إلى هند إلى الترجمان مصطفى باشا العثمانى يتخذ التكرار شكلًا آخر، حيث يتم سرد نفس الأحداث من وجهة نظر الشخوص المختلفة فنراها تارة من خلال عيون هند، ثم نعايشها من خلال سلار ومعاناته وكبريائه المجروح، ثم ننتقل لوجهة النظر المعاكسة من خلال شهادة مصطفى باشا الذى يتبنى وجهة نظر العثمانيين ويدافع عنهم. ونرى فى هذه الحكاية أيضًا شخصية ابن إياس الذى كتب كتاب “بدائع الزهور فى وقائع الدهور” وهو الكتاب العمدة فى تسجيل تاريخ مصر فى العصر المملوكى ومن الواضح أن الكاتبة قد اعتمدت على هذا الكتاب كثيرًا فى تصويرها للعصر وأحداثه، ولكنها لم تكتفِ بذلك بل خلقت شخصيات من لحم ودم تفاعل معها القارئ وتوحد معها وأحس بمعاناتها وصراعاتها.

والثلاثية وإن كانت عن التاريخ، فهى أيضًا عن الإبداع، عن الفن الذى يملك على الفنان نفسه وينتج عنه أعمال خالدة مثل مسجد السلطان حسن ومسجد السلطان برقوق وغيرها من المساجد والمدارس والأسبلة.

تندثر الممالك والحضارات ويبقى الحجر شاهدًا على عبقرية الفنان الذى أبدع وصمم، ولهذا كانت جريمة العثمانيين الكبرى ليست فقط فى أنهم سرقوا الذهب والفضة ورخام المساجد وحتى المشكاوات والأبواب الخشبية المرصعة بالنحاس، ولكن فى أنهم سرقوا روح مصر، سرقوا مبدعيها حيث أرغموا ألفين من أمهر الحرفيين على السفر إلى الأستانة للعمل هناك. ولكن عبقرية المكان تبقى رغم الهزيمة والهوان فمن “الصعب الانتصار على الأحجار ومصر ممتلئة بالأحجار”.

قدمت لنا الكاتبة هذه الوجبة الدسمة من خلال لغتها الجميلة الرصينة التى هى مصدر متعة خالصة فى القراءة وهو ما عرف عن كتابات ريم بسيونى بشكل عام ولكن يميز اللغة هنا مسحة صوفية تتغلغل فى أغوار النفس وتلمس شغاف القلب.

تقع الثلاثية فى حوالى 760 صفحة وتستغرق أيامًا فى قراءتها ولكنها أيامًا مليئة بالمتعة والثقافة والإشباع.

(الوطن)

اترك تعليقاً

إغلاق