أخبار

«طائر الشوف» الربيعي يغرد بـ «أحزان القصب»

خمسة كتب، هي ما أحتفظ به من هدايا وذكريات ثقافية مع الفنان التشكيلي والكاتب الأديب العراقي شوكت الربيعي، الذي رحل عن الدنيا في اليوم الثاني من هذا الشهر يناير عن 83 عاما، فقد توفاه الله في مدينة أربيل في شمال العراق، ملامسًا تراب وطنه ومنشأ أحلامه، باعثًا حزنا في نفوس أصدقائه ومعارفه، من المثقفين والكتاب في سلطنة عُمان وخارجها، فهو شخصية مشهورة، إذ لم يكن رَسَّاما فحسب، وإنما كان مشتغلا بالكتابة عن الفن التشكيلي، ساردًا لحياة أفلت شموسها في المنافي والاغتراب، وكتابة عن التشكيليين والشعراء وغيرهم، في يوميات يصفها بالمدهشة.

ومن سيرته الذاتية نعرف أنه ولد في عام 1940، في محلة «الجديدة القادرية» بمدينة «العمارة» جنوب العراق، تخرَّج من معهد الفنون التشكيلية ببغداد عام 1962، وأسس جماعة الجنوب للفنون التشكيلية، وأقام أول معرض شخصي له في قاعة نقابة المعلمين بالعمارة عام 1964، ثم تتالت المعارض بعد ذلك طوال حياته، ليقيم معارض شخصية داخل العراق وخارجها، وشارك في معارض جماعية أقيمت في مختلف الدول العربية من بينها: أبوظبي، ودمشق، وعمَّان، والخرطوم، وبيروت وغيرها، وشغل في حياته أعمالا صحفية، من بينها مجلة «الوعي الحر»، وسكرتير تحرير لمجلة «الرواق» المتخصصة في الفن التشكيلي، وأصدر نشرات فنية مصورة، إلى جانب ذلك عمل معدا ومقدما لبرامج إذاعية وتلفزيونية.

رحل شوكت الربيعي بعد حياة حافلة بالرَّسم والكتابة، متنقلا بين عواصم عربية وأجنبية، وأقام في مسقط نحو خمسة عشر عاما، وخلالها استطاع أن يترك بصمة في التعريف بالفن التشكيلي العماني، بكتاباته النقدية عن التجارب الفنية، وقد عرفته محررا لصفحات فنية تصدر أسبوعيا عن جريدة عمان ضمن ملحق «شُرفات»، بين أعوام: (2003 – 2006)، كانت تزيِّن الملحق أشبه بواسطة العقد الملونة، وكان لتلك الصفحات حضورها لدى المتابعين للحركة التشكيلية في عُمان، كما كان شوكت الربيعي يحرث بقلمه الأرض الفنية التي تقف عليها أشجار ظليلة من الفنانين التشكيليين العمانيين.

في لقاءاتي به بالجريدة، كنت أراه منهمكا في تنفيذ صفحاته، وألمس في حديثه إحساسا بالرِّضا والطمأنينة، وأحيانا يبدي تبرُّمه وضيمه بحساسية مكظومة، يعبر عنه بترديده لمقولة: (إن أقبَلتْ باضَ الحَمَام على الوَتد، أو أدبَرَتْ بصَقَ الحِمارُ على الأسَد)، وقد تعتريه حالات انكسار نفسية، فيردد هذين البيتين الشعريين للشاعر العباسي السَّريُّ الرَّفاء:

وكانت الإبرَة فيما مَضَى

صَائِنة وَجْهِي وأشْعَارِي

فأصبحَ الرِّزقُ بها ضَيِّقًا

كأنه مِنْ ثُقبِها جَاري

ذات مرة أقام معرضا فنيا خاصا بلوحاته، في الجمعية العمانية للفنون التشكيلية بمسقط، ومجمل لوحاته التي عرضها أو نشرها في كتبه، تعكس حالات الإنسان العراقي في غيابه وحضوره، وانكساراته وابتهاجاته، لوحة «عودة الغائب»، عبَّرت بريشة واقعية عودة شخص منكسر، وقد انحنى ظهره، ليطرق الباب على بيته الأول، فيما يبدو الذهول من حدقات العيون التي تفتح له الباب، وكأنها تقول متسائلة: من يكون مُنحَنِي الظهر هذا، الطارق علينا الباب؟!

لوحة «سلة رطب البرحي»، تكشف علاقته بهذه النخلة العراقية، كانت «البرحي» بالنسبة للربيعي نخلة الفقراء والمعوزين والبسطاء، رسمها بريشة جسَّدت قوام فتاة ينحسر الثوب من معصميها، فيما السلة تنحني بثقل ثمرها إلى الجهة الأخرى.

ورسمت لوحات شوكت الربيعي نماذج من ملامح الناس في «هور الرفاشية»، و«أهوار ميسان» جنوب العراق، ضمنها كتابه الذي صدر بتحرير ماجد الغرباوي، بعنوان: «شوكت الربيعي فضاء إبداعي متوهج»، كما عكست لوحاته بساطة الحياة في الريف العراقي، واهتمام المرأة العراقية بالحناء، وتمشيط الفتاة العراقية لشعرها وكأنها كما يعبر عنها في تعليق للوحة: جديلة الأحزان، كما تظهر الأحداق الواسعة لفتاة «حسناء الشحمان»، مجسدة عيون المها التي تجلب الهوى، وله أكثر من لوحة فنية تحمل عنوان: «الحرب والسلام» كتجسيد فني لقلق الإنسان العراقي ونشدانه للسلام.

ترك الربيعي قائمة من العناوين والكتب، التي ألفها في الفن التشكيلي، وكتب عن كبار الفنانين من أمثال فائق حسن ونزار سليم، والنحات يحيى جواد، وله سيرة ذاتية بعنوان: «أحزان القصب»، ساردا تفاصيل عن حياته في الريف العراقي، وترحاله بين المدن والمنافي، وشغفه بالريشة المتأوِّدة بالألوان، صدر الكتاب عن دار الشؤون الثقافية ببغداد عام 1987، أكملها بعد ذلك بكتاب «طائر الشوف الأصفر»، خصصه في رؤى الفن وتحرير الإبداع، صدر عن المجمع الثقافي بأبوظبي عام 2000، وله أيضا كتاب نقدي بعنوان: «الفن التشكيلي المعاصر»، صدر عن مركز الشارقة للإبداع الفكري،عام 1985.

خلال إقامته في عمان أنجز شوكت الربيعي كتابين هما: «كتاب الأمل»، اليوميات المدهشة (1958 – 2008)، وكتاب «الفن التشكيلي المعاصر في عمان»، وكلاهما صدرا عن مؤسسة الرؤيا للصحافة والنشر بمسقط. في يومياته المدهشة، يسير الربيعي في ذات النهج الذي سار عليه في كتبه، وهو رصد اليوميات والكتابة عن الآخرين، في هذه اليوميات تحتشد أسماء كثيرة، بصورة مدهشة حقا، تنم عن إلمامه كفنان وكاتب بحركة الفن التشكيلي في مداها الواسع بالوطن العربي، مفصلا أكثر عن مجايليه من التشكيليين العراقيين، وهذا يؤكد على شخصيته المنفتحة على الآخرين، وحبه لكتابة السير الغيرية.

 

في «كتاب الأمل – يوميات مدهشة»، نقرأ لغة مدهشة، وأسماء مدهشة، ورصد مدهش، لتفاصيل دقيقة تخص الفنانين، موثقا تاريخهم الإنساني، وتماسه الحميمي مع إبداعهم الفني، أما كتابه «الفن التشكيلي المعاصر في عمان»، فهو برأيي شهادة من فنان كبير على التجربة التشكيلية العمانية، وفي صفحاته التي تبلغ 247 صفحة من القطع المتوسط، والمتضمن لوحات فنية ملونة بريشة مجموعة كبيرة من الرسامين العمانيين، نقرأ ما يشبه السيرة الذاتية لهذه التجربة، منذ تأسيسها الأول، والثيمات التي اشتغل عليها التشكيلي العماني، نقرأ في القسم الأول: مدخلا عن الفن التشكيلي المعاصر في عمان، ثم التأسيس والوعي الثقافي، ونظم التربية الفنية، وفي القسم الثاني من الكتاب نقرأ: الخطوة الأولى في مسيرة الفن التشكيلي في عمان: المرسم الحر والمعرض الأول، ثم حديث عن معارض الهواة في النوادي الرياضية، وتتسلسل فصول الكتاب إلى الكشف عن أعمال فنية اشتغل عليها الفنانون العمانيون، في الرسم الواقعي والتجارب التجريدية والأعمال الأخرى المركبة وفن النحت لدى بعض النحاتين، والاشتغال على “موتيفات” الموروث الشعبي، وتشكل جماعات فنية كجماعة الدائرة وجماعة الروزنة، والحروفيات وتجارب الكتابة بالخط الكوفي وغيريه، ثم الاشتغال على الزخارف والخزفيات والجرافيك وغيرها. والجميل في هذا الكتاب هو حديث الكاتب التعريفي بالفنانين والنقدي بتجاربهم الفنية، فيفصل ويسهب أحيانا في الحديث عن الرواد، وقد يمر إلماحا على بعض الهواة، مضمنا الكتاب لوحات فنية تناولها بالقراءة والنقد. وبكتابته المفصلة والعميقة عن تجربة الفن التشكيلي في عمان، يترك شوكت الربيعي للساحة الفنية أجمل ذكرى وأعمقها أثرا وأرقاها أسلوبا، خاصة مقدمته الرائعة المفعمة بالرائحة والحياة والأناقة في التعبير.

وما يزال الحديث عن الفنان العراقي الكبير شوكت الربيعي، يثير في النفس شجونا كثيرة، ويذكِّر بتفاصيل مملوءة بالألوان والعطر والاخضرار، ومما يؤسف له أنه نُكب في مسقط بوفاة ابنته الكبرى رُواء، وبسبب رحيلها عاش الفنان شوكت عذابا وانكسارا، يعرفه أصدقاؤه كثيرا، بسبب ارتباطه الحميمي بأسرته وتعلقه بهم، فكانت وفاة رواء أشبه بنزع روحه منه، حتى غادر مسقط إلى الإقامة في تركيا، وبقي منكفئا على نفسه، ورهين همومه وأحزانه، ثم جاءت عودته الأخيرة إلى العراق، لتفيض روحه في مدينة «أربيل» ويدفن فيها.

فيا أبا كريم، ها هي الأقدار تغلق ألبوم حياتك، وتغمض عينيك إلى الأبد، وها نحن نفتح كتبك من جديد، فنشم منها عبق الرَّبيع الموسُوم به اسمك، ونتصفح ألبوم لوحاتك الفنية، فنتذكر أيامك بيننا، التي كانت كإهدائك الشيق لي في أحد كتبك: (عربون صداقة جديدة على معراج الثقافة والمحبة الإنسانية)، فيا طائر الشوف غرِّد باكيا بأحزان القصب.

 

إغلاق