محمود شكر الجبوري
رى المتتبع لتطور الخط العربي اهتمام الكتاب به باعتباره الوسيلة التي كتبت بها آيات القرآن الكريم، وبرزت أهمية تجويد الكتابة والعناية بها لقدسيتها ومكانتها العظيمة عند العرب والمسلمين.
ولقد تابع المهتمون بموضوع تطور الخط العربي في العصور الإسلامية، وهم يؤكدون حقيقة أصالة الكتابة العربية، وهي تتطور وفق المراحل التي حددت فيها أساليب الكتابة. والخط العربي ـ كما قال ابن خلدون في مقدمته ـ (كان الخط غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولما فتح العرب الأمصار، وملكوا الممالك، ونزلوا البصرة والكوفة، واحتاجت الدولة إلى الكتابة، استعملوا الخط، وطلبوا صناعته وتعلّمه، وتداولوه، فارتقت الإجادة فيه، واستحكم، وبلغ في البصرة والكوفة رتبة من الإتقان، إلا أنها كانت دون الغاية ثم انتشر العرب في الأقطار والممالك، وافتتحوا أفريقية والأندلس).
أثبت جمهور الباحثين قديماً وحديثاً أن أول من اخترع أحرف الهجاء هم الفينيقيون. والفينيقيون العرب الكنعانيون أصلاً، والفينيقيون هم سكان جبال لبنان وشواطئ البحر الأبيض المتوسط منه. يرجع أصلهم إلى الكنعانيين، وهم أحد الأقوام الذين نزحوا من جزيرة العرب بحدود الألف الثالثة قبل الميلاد.
وأن الحروف الهجائية الفينيقية أصل الهجاء عند الأمم وقد حلت محل القلم المسماري والقلم الهيروغليفي المصري .. حيث هناك تزاوج بين الحضارتين العراقية والمصرية ، وقد تم هذا التزاوج على ساحل البحر الأبيض المتوسط الشرقي فتمحضت عن هذا التزاوج حروف سهلت الكتابة لشعوب العالم أجمع وأن أعظم عمل قام به الكنعانيون للحضارة هو اختراعهم الأبجدية الهجائية. وتعّد أهم الاختراعات في تاريخ البشرية
في هذا المقال: رغبنا إعطاء صورة واضحة عن السمات الخطية في بلاد الشام عبر العصور التاريخية : حيث تعد المدرسة الشامية من المدارس الأولى التي عنيت بالكتابة العربية وتطورها.
ولقد حظيت الحروف العربية عبر الزمن باهتمام كبير لا باعتبارها أداة تسجيل الأفكار والمعلومات والتخاطب فقط بل استخدمت الحروف للزينة والجمال، حيث استخدمت الحروف كعنصر أساسي في تجميل وزخرفة المنشآت المعمارية كالمساجد ودور العلم وغيرها.
الكتابة بين الآراميين والأنباط
الأنباط عرب أغاروا أول أمرهم على أقاليم “آرامية” وتحضروا بحضارتها واستخدموا لغة الآراميين في سائر شؤونهم العمرانية. وكانت عاصمتهم (البتراء) مزدهرة، زهاء خمسة قرون، وكانت في خلالها مركزاً تجارياً عظيم الأهمية على طريق القوافل بين (سبأ) اليمن وبلاد البحر الأبيض المتوسط.
لقد أحس الأنباط تحت تأثير التجارة التي كانوا يمارسونها بضرورة الكتابة، فكتبوا بالحروف الآرامية، وظلوا يتكلمون لهجة من اللهجات العربية وقد حاولوا في بادئ الأمر، تصوير الحروف الآرامية، وولّدوا منه الخط الذي عرف بالنبطي، ثم مضى هذا الخط بسرعة في طريق التحسن، وصارت له صفاته الخاصة، فهو يشبه الآرامية بما فيه من تربيع، ويبتعد عنها بما ظهر فيه من ميل إلى الاستدارة.
وعلى هذا، فإن الكتابة النبطية كتب بها الأنباط منذ محاكاتهم الخط الآرامي، وأثناء قيام مملكتهم، وبعد زوالها، وكتب بها العرب الشماليون بعد زوال مملكة الأنباط عدة قرون. ولكنها كانت كتابة متطورة، مستمرة في التطور، حتى انتهى هذا التطور إلى الكتابة العربية الجاهلية. والصورة الأولى للخط العربي الجاهلي لا تبعد كثيراً عن صورة الخط النبطي في آخر مراحله.
وقد كان من الطبيعي أن يأخذ عرب الحجاز الخط النبطي، ويطوروه، ذلك لأن الأنباط كانوا أكثر حضارة من عرب الحجاز، فأثروا في هؤلاء، واقتبس عرب الحجاز خطهم من أولئك نظراً للاتصال المباشر بهم، أثناء رحلاتهم الدائمة إلى الشام.. ولم يكن للشام طريق أخرى توصلهم إليها. فهذا الاتصال الحضاري الدائم بين عرب الحجاز، وعرب الأنباط كان أكبر مساعد على أخذ عرب الحجاز خطهم من الأنباط.
وقد أكد الكثير من الباحثين من خلال الاكتشافات الأثرية (أن الخط النبطي اشتق من الخط الآرامي، وأن الخط العربي قد اشتق من الخط النبطي المتأخر). والدليل على ذلك النقوش النبطية وهي (نقش النمارة ونقش زبد، ونقش حران). وعلى نحو ما استعار النبط خطهم الأول من الآراميين، استعار العرب خطهم الأول من الأنباط.
الخط العربي في بلاد الشام في العصر الأموي
كان من أول أعمال “معاوية بن أبي سفيان” مؤسس حكم الأسرة الأموية (40-132هـ/ 660-749م). أن نقل مركز الخلافة من الكوفة إلى دمشق ببلاد الشام.
وبانتقال الخلافة من الكوفة إلى دمشق وقيام الدولة الأموية، انتقل مركز العناية بالكتابة إلى الشام، وعُنيَ خلفاء بني أمية بأمر الكتابة لإدراكهم مكانها في نشر الدعوة الإسلامية والترويج لخلافتهم.
ومن المعروف أن الخلفاء الأمويين قد أولوا الخط عناية فائقة وذلك لحاجتهم الماسة إليه سواء في الكتابة على العمائر والتحف أم في استعماله في كتابة المصحف الشريف والدواوين والمراسلات والنقود.
ولدراسة أشكال حروف الخط العربي لتلك الفترة الزمنية، يترتب على “الباحث” دراسة ما خلفته الدولة الأموية من نقوش وملاحظة أثر التمدن والذوق، وأثر اختلاف المواد التي كتبت عليها. ولقد طرأ على الحروف العربية بعض التحسينات في العصر الأموي، ولو أجرينا دراسة لهذه الحروف (قد يطول البحث فيها.. ونكتفي بهذا).
ولقد اشتهر في العصر الأموي كتاب كثيرون: نذكر منهم “خالد بن أبي الهياج: ويوصف بحسن الخط. و”شعيب بن حمزة” الذي اشتهر بأناقة خطه. و”مالك بن دينار” الذي كان يكتب المصاحف بالأجرة.
وجاء “قطبة المحرر” فكان يمثل مرحلة من المراحل الكبيرة الأولى في تاريخ فن الخط.. وقيل أن قطبة المحرر: استخرج أقلاماً هي: (قلم الجليل والطومار، كما استخرج قلم الثلث والثلثين). ولهذه الأقلام نسب حسابية: حيث يقدر عرض قلم الطومار بـ(أربعة وعشرين شعرة من شعر البرذون… والبرذون هو البغل). وتقدر أعراض الأقلام من هذه النسبة.
ولقد ظهرت في الكتابة العربية القديمة ظاهرة سميت (بالمشق). فما معنى المشق؟
المشق في اللغة: جذب الشيء ليمتد ويطول. ومشق الخط يمشقه. وفي القاموس: المشق في الكتابة: مدّ حروفها. ومن معاني المشق في الكتابة سرعة الكتابة، وخفة يد الكاتب. وللمشق في العصر الأموي أصوله وقواعده يميل إليه الكثير من الخطاطين.
وتذكر بعض المصادر أنه: (اخترع الشاميون نوعاً من الورق عرف بالقرطاس الشامي، فساهموا بدورهم في ارتقاء الكتابة العربية وتجويدها).
والمتتبع لتطور الخط العربي في العصر الأموي. يرى ظهور بوادر زخرفية جديدة، الظاهر أنها لم تكن قيد الاستعمال في الخط من قبل.
الخط العربي فيما بعد العصر العباسي
بعد سقوط بغداد على يد المغول في (5 صفر سنة /656هـ/ 1258م)، مال بعض الخطاطين إلى الربوع العربية والإسلامية… فتكونت الخطوط، لتعليم الخط هناك، ونشأت مؤسسات استقر فيها تعليم الخط منذ أيام الخطاط “ياقوت المستعصمي” ومن هذه الربوع بلاد الشام ومصر.
والشام ومصر كانتا دولة واحدة…. وفي هذا، يقول ابن خلدون: (لما انحل نظام الدولة الإسلامية وتناقص ذلك أجمع، ودرست معالم بغداد بسقوط الخلافة، فانتقل شأنها من (الخط والكتابة) بل و(العلم) إلى مصر وغيرها).
والخطاطين في الشام ومصر أخذوا عن العراق…. وأما العلوم فقد فاضت، و(مدارس الخط العربي) في الشام قد تأسست على يد الخطاطين العراقيين، ولم تنقطع صناعة الخط من بغداد.
لقد تنوعت الأقلام في نهاية الدولة الأموية… ومن هذه الأقلام “قلم الجليل الشامي” ومخترعه “قطبة المحرر”.
وبالعودة إلى خط الثلث القلم الذي بعد ثلث قلم الجليل … نرى أنه على الرغم من شيوعه في الكتابة اليومية والتدوين والمؤلفات التي شهدت العصر الذهبي للحضارة العربية والإسلامية في القرن الرابع الهجري، وظهور مجموعة كبيرة من الخطاطين المجودين في بغداد، مركز الإشعاع الحضاري في حينها، من أمثال (اليزيدي، وابن مقلة الوزير، وابن مقلة الأخ، ومهلهل بن أحمد، وابن أسد، والسمسماني، وابن البواب) وغيرهم.
ولما شاعت كتابة المصاحف الكريمة بالخطوط الأخرى المستمدة من خط الثلث القديم (كالريحاني والمحقق، عندها أقدم الخطاطون على التغيير على اعتبار أن خط الثلث القديم أسهل في الأداء للخطاط المجيد لاعتماده على القدرة اليدوية بالدرجة الأساس، وهو أكثر وضوحاً من الخطوط الكوفية.
ولقد هجرت خطوط الكوفة في كتابة المصاحف، وحلت محلها الخطوط اللينة بأنواعها المختلفة، ففي ديار الأتابكة جودت خطوط النساخ حتى تولد منها خط جرى على نسبة ثابتة، امتاز بجمال الرونق ووفرة الرواء هو خط النسخ الأتابكي الذي كتبت به المصاحف.
ومنذ العصر الأيوبي في مصر والشام، بدأنا نرى الخطوط المستديرة تحل محل الخطوط الجافة الكوفية على المباني والأحجار.
الخطاطون في الشام لما بعد العصر العباسي
كان للخط العربي عشاق توفروا على الإجادة فيه على طول السنين، وتحفظ المصادر التاريخية بكثير من أسماء هؤلاء، منهم النساء ومنهم الرجال. ولقد اشتهر في بلاد الشام ومصر خطاطون كبار وبرزت شهرتهم بعد العصر العباسي، ومن هؤلاء المشاهير من أخذ الخط من خطاطي بغداد أو من تعلم من الخطاطين الذين جاؤوا من بغداد إلى الشام: وبودي ذكر أشهرهم:
– ابن العديم: هو كمال الدين أبو القاسم عمر بن أبي جرادة الحلبي. ولد في حلب سنة (588هـ).. وتوفي في سنة (660هـ) في القاهرة.
– الأمير سنجر المستنصري: هو قطب الدين أبو المظفر بن عبد الله المستنصري. كان من كبار الخطاطين في بغداد: هرب من بغداد إلى الشام، وأخذ أهل الشام الخط عنه وتعلموا منه أساليب القاعدة البغدادية.. توفي في دمشق سنة (669هـ).
– أبو الفضل الدمشقي: هو عز الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن سليمان بن علي الدمشقي. نشأ في دمشق.. قدم بغداد: وكان أبو الفضل.. مليح الخط يعتني به ويجوده. توفي في همذان سنة (678هـ) ودفن هناك.
– عماد الدين الدمشقي: هو عماد الدين أبو الفضل محمد بن القاضي شمس الدين… انتهت إليه الرئاسة في (براعة الخط)… وكان يرتحل للتجارة ويجتمع بالخطاطين. كان يجيد قط الأقلام… توفي في دمشق في سنة (682هـ).
-زين الدين المقدسي: هو زين الدين أبو العباس أحمد بن عبد الدائم….ولد في نابلس.. قدم بغداد.. توفي في دمشق، ودفن بسفح قاسيون عام (668هـ).
– جمال الدين بن العديم: هو جمال الدين أبوغانم محمد بن الصاحب كمال الدين.. قدم بغداد مع والده.. كان من أذكياء العالم.. برع في كتابة الخط المنسوب… توفي جمال الدين سنة (695هـ). مشى في جنازته السلطان الملك المظفر.
– أبو البركات عبد القاهر علي بن عبد الله بن أبي جرادة: له الخط الرائق والشعر الفائق و(التذهيب).. توفي سنة (666هـ).
– ابن العجمي: هو الرئيس كمال الدين أبو يوسف أحمد بن عبد العزيز…. حسن الخط والإنشاء.. كتب للملك الناصر صلاح الدين. بلغ من العمر (46 سنة).
– ابن البصيص: هو نجم الدين موسى بن علي بن محمد. كتب الأقلام كلها.. له شرح قصيدة ابن البواب.. انتفع الدمشقيون بخطه. مات سنة (716هـ).
– ابن الوحيد: هو شرف الدين محمد بن شرف ابن يوسف الكاتب صاحب الخط الفائق سافر إلى العراق. واجتمع بياقوت.. (خدم “بيبرس الجاشنكير”). وكتب له ختمة.. وأثابه “الجاشنكير” بإدخاله ديوان الإنشاء بالقاهرة له شرح منظومة قصيدة ابن البواب.. توفي بالقاهرة سنة (711هـ).
– ابن سامة الدمشقي: هو الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن سامة… ولد في دمشق سنة (662هـ): ارتحل إلى مصر.. ثم قصد بغداد كان ابن سامة حسن الخط.. وخطه مليح بديع وله مشاركة في فنون كثيرة. توفي ابن سامة سنة (708هـ).
– ابن المهتار: هو أمين الدين محمد بن علي بن المهتار. ولد في صفد سنة (707هـ)… كان حسن الخط، جوّد خطه على خطاطي دمشقي وكتابها، حتى برع في الكتابة المنسوبة… توفي في القاهرة سنة (749هـ).
– محمد بن أسد بن النجار: كاتب الخط المنسوب، كتب عليه جمع بمدرسة القليجية بدمشق. مات سنة (726هـ).
– ابن الأخلاطي: هو محمد بن نجيب بن محمد المعروف بابن الاخلاطي ولد سنة (660هـ).. تعانى الخط المنسوب.. مات بالقاهرة سنة (726هـ).
– شهاب الدين أحمد الحموي: ولد في سنة (699هـ)… قدم القاهرة سنة (732هـ) وفيها كتب الختمة.