بيت من الشعر، تركه المتنبي، دون أن يدور بخلده، أن هذا البيت، سـ”يغفر” له عيوبا عابه عليها، نقاد وشعراء ودارسون. بيت شعري واحد، يقف في وجه انتقادات وجهت لشعر المتنبي، نظراً لما في البيت من ابتكار، قيل فيه إنه لم يسمع بمثله.
أبو الطيب المشهور بالمتنبي، واسمه أحمد بن الحسين الكندي، 303-354ه، أحد كبار شعراء العربية الذي قيل فيه ما لم يقل بغيره، وظلّ شِعره مدار تفسير وشرح، على مدى قرون، لما ينطوي عليه شعره، من ابتكارات وغوامض تتكشف، تباعاً، حسب دراسات الدارسين له والكاشفين لأغوار عوالمه الشعرية.
ويشار إلى أن عدد الذين عابوا على المتنبي، أبياتاً ومعاني عديدة، وردت في قصائده، أقل من النقاد الذين استحسنوا شعره ورأوا فيه، إحدى أهم العلامات في تاريخ الشعر العربي. وأجرى القاضي الجرجاني “وساطة” بين المتنبي و”خصومه” ليقوم بدور الميسِّر نافذ البصيرة، ويوضح، ما يمكن أن يكون عيباً، في شعره، وما يمكن له أن “يغتفر” تلك العيوب.
قوة النقد
“الوساطة بين المتنبي وخصومه” الذي صنفه القاضي الجرجاني 290-366ه، ليس كتاباً يختص بشعر أبي الطيب في المقام الأول، بقدر ما هو توفيق بين من يرون مساوئ الرجل الشعرية، ومحاسنه، في إطار من إلمام الناقد الجرجاني الكبير بمختلف قواعد الشعر العربي، إلى الدرجة التي قال فيها الثعالبي، بعد اطلاعه على “الوساطة” إن الجرجاني “أعرب عن تبحّره في الأدب وعلم العرب، وتمكّنه من قوة النقد”.
وفي سياق نقل الجرجاني، لما يعرف بعيوب الابتداء في القصيدة، وهي أوائل النصوص الشعرية، سواء أكانت مقتصرة على الصدر، أو الصدر والعجز معاً، أقرّ الناقد لما تعرّض له نقاد أبي الطيب من “عيوب” في بعض فواتح قصائده، من مثل “كفّي أراني ويكَ لومِكَ ألوما” و”بقائي شاء ليس هم ارتحالا” وكذلك “العيب” المعنوي الخطير الذي وقع فيه المتنبي، في ما يعرف بتاريخ التصنيف العربي، باسم “آداب الملوك”. ويقر الجرجاني بأن هناك من تصيّد على المتنبي ذلك العيب عندما لم يحسن مخاطبة ملك، حيث لم يقم باختيار العبارات اللائقة، ويقول: “واستقبحَ افتتاحه مخاطبة ملكٍ بقوله: كفى بك داءً أن ترى الموتَ شافيا/ وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا”.
انفراد وابتكار
في المقابل، فإن الوساطة التي قام بها الجرجاني، بين عشاق شعر المتنبي، وأولئك الذين يكثرون مساوئه أمام أصحابهم وقرائهم، حتى تركوا بذلك مصنفات، رأى بعض النقاد أن الجرجاني كتب كتابه رداً على ما ورد فيها، من تقليل من شأن المتنبي، غيرة وحسدا للمكانة الرفيعة التي وصل إليها الشاعر، فقد طلب الجرجاني “المغفرة” للمتنبي، لما ورد لديه من مآخذ، إنما من خلال بيت شعري قاله الشاعر، رأى الجرجاني أنه لا مثيل له ولم يؤت مثله من قبل، فما هو هذا البيت وماذا ورد فيه كي يتمكن من مسح جميع عيوب شعر مالئ الدنيا وشاغل الناس؟
ومن الجدير بالذكر، فإن “الوساطة” عرض مختلف ما طعن على المتنبي في شعره، مثلما عرض لطعون على شعراء آخرين، قبله وبعده، إنما وبعد إقراره “بعيوب ابتداءات” شعرية عديدة له، يقول: “فليغتفر ذلك له، لقوله: أتُراها لكثرة العشاقِ/ تحسب الدمعَ خلقةً في المآقي؟!” ثم يصف هذا البيت بأنه “ابتداء ما سُمِع بمثله، ومعنى انفرد باختراعه”.
ما سرّ هذا البيت؟
وبحسب غالبية الذين تناولوا شعر المتنبي، في كتب منفصلة صنفت لشرح أشعاره، من مثل الواحدي، والعكبري، والمعرّي، فإن سرَّ البيت المذكور، يتحدث مجازاً عن “معشوقة” تعتقد بأن الدمع في وجوه الرجال، عبارة عن خلقة، أي أنه جزء من وجوههم كالعيون والأنوف، وأن هذا هو السبب الذي يجعل تلك المعشوقة، لا ترحم أولئك العشاق أو تتعاطف معهم، لأنها محاطة دائما بمن يريد أن يخطب ودّها، ويفشل بذلك، فهي اعتادت منظر الدموع حتى ظنّتها جزءا من وجوه من حولها، فلا تتعاطف معهم لهذا السبب. وهو معنى مبتكر انفرد المتنبي باختراعه، بحسب الجرجاني وآخرين بحجمه.
ومن الجدير بالذكر، أن هذا البيت الذي تحلّق حوله، كبار المصنفين العرب، معجبين، كالثعالبي الذي كرّر وصف الجرجاني له، عثر، وبعد عدة قرون، على من يجد له تفسيرا مختلفا، عما أورده كبار شرّاح المتنبي، وأطاح بالصورة الأصلية للمخاطب في البيت المذكور.
صنّف المهلّبي، أحمد بن معقل، 567-644ه، كتاباً في المآخذ على الشرّاح، هذه المرة، وليس على الشعراء، كما جرت العادة. وأورد في “المآخذ على شرّاح ديوان أبي الطيب المتنبي” تفسيرا جديداً للبيت الذي فتك بإعجاب الجرجاني ووصفه بأنه لا مثيل له. وذكر المهلبي أن ابتداء المتنبي القائل “أتراها لكثرة العشاق” المقصود به، مخاطبة الشاعر نفسه لا صاحبه. ويقول: “يقول لصاحبه، أتظنها لكثرة ما ترى الدمع في مآقي عشاقها، تتوهّم أنه خلقة، فهي لا ترثي لمن يبكي”. ثم يردّ المهلبي على التفسير السابق بقوله: “وأقولُ: الجيّد في هذا، أن يكون القول لنفسه، لا لصاحبه”.
ويفصّل المهلبي، بحسب تفسيره للبيت الذي انفرد المتنبي باختراعه، ومكّن ناقدا كبيرا من طلب “المغفرة” له على عيوبه الشعرية، بسببه، فيقول في شرحه: “يقول لنفْسه: أتظّنها تحسب الدمع خلقة، وإذا كانت كذلك، فلا ترثي لباكِ”. ويشار إلى أن البيت المذكور، هو في الأصل من مطلع قصيدة يمدح فيها المتنبي، شخصا يدعى أبا العشائر، ولا يجمع المصنفون كافة على مناسبة تلك القصيدة أو هوية الممدوح الحقيقية فيها.
المصدر: العربية نت