آدابسلايد 1

اقرأ مع زكى نجيب محمود.. “المعقول واللامعقول فى تراثنا الفكرى”

نواصل إلقاء الضوء على مشروع المفكر العربى الكببير زكى نجيب محمود (1905- 1993) الذى يعد أحد أبرز المفكرين المصريين والعرب فى القرن العشرين، ونتوقف اليوم مع كتابه “المعقول واللامعقول فى تراثنا الفكرى”.

يقول الكتاب فى مقدمته:

أردت بهذا الكتاب الذى بين يديك أن أقف مع الأسلاف — فى نظراتهم العقلية وفى شطحاتهم اللاعقلية كِليهما — فأقف معهم عند لقطات ألقطها من حياتهم الثقافية، لأرى مِن أى نوع كانت مشكلاتهم الفكرية، وكيف الْتمَسوا لها الحلول، لكننى إذ فعلتُ ذلك، لم أحاول أن أُعاصرهم وأتقمَّص أرواحهم لأرى بعيونهم وأُحِسَّ بقلوبهم، بل آثرتُ لنفسى أن أحتفظَ بعصرى وثقافتي، ثم أستمع إليهم كأننى الزائر جلس صامتًا لِيُنصِت إلى ما يدور حوله من نقاش، ثم يُدْلى فيه بعد ذلك — لنفسه ولمعاصريه — برأى يَقبل به هذا ويَرفض ذاك.

المعقول واللا
قسمتُ الكتاب قسمَين: جعلت أحدَهما لرحلتى على طريق العقل عندهم، وجعلتُ الآخرَ لبعض ما رأيتُه عندهم مجافيًا للعقل، لائذًا بما ظنوه أعلى منه، وتعمدتُ أن يجيء القسم الأول أكبرَ القِسمَين؛ لتكون النسبة بين الحجمَين دالةً بذاتها على النسبة التى أراها واقعة فى حياتهم الفعلية بين ما وزَنوه بميزان العقل وما تركوه لشطحة الوجدان.
ولقد اهتديتُ فى رحلتى على طريق العقل بدرجات الإدراك فى صعودها من البسيط إلى المركَّب، وهى المراحل التى أشار إليها الغَزالى عند تأويله لآية النور: فالمشكاة، والمصباح، والزجاجة، والزيتونة هى عنده درجاتٌ مِن الوعي، تتصاعد وتزداد كشفًا ونَفاذًا، فاستخدمتُ بدَورى هذه المراحل لأرى من خلالها خمسة قرون من تاريخ الفكر فى المشرق العربى — من القرن السابع الميلادى إلى بداية القرن الثانى عشر — إذ خُيِّل إلى أن السابع قد رأى الأمور رؤيةَ المشكاة، والثامن قد رآها رؤية المصباح، والتاسع والعاشر قد رأَيَاها رؤية الزجاجة التى كانت كأنها الكوكب الدُّري، ثم رآها الحادى عشَر رؤية الشجرة المباركة التى تُضيء بذاتها.
وذلك لأنى قد رأيتُ أهل القرن السابع وكأنهم يُعالجون شئونهم بفطرة البديهة، وأهل القرن الثامن وقد أخَذوا يضَعون القواعد، وأهل القرنين التاسع والعاشر وقد صَعِدوا من القواعد المتفرقة إلى المبادئ الشاملة التى تضمُّ الأشتاتَ فى جذوع واحدة، ثم جاء الحادى عشر بنظرة المتصوِّف التى تَنطوى إلى دخيلة الذات من باطن؛ لترى فيها الحقَّ رؤية مباشرة.
كذلك تصورتُ لكل مرحلة من هذه المراحل سؤالًا محوريًّا كان للناس مَدارَ التفكير والأخذ والرد؛ ففى المرحلة الأولى كانت الصدارةُ للمشكلة السياسية الاجتماعية؛ مَن ذا يكون أحقَّ بالحكم؟ وكيف يُجزى الفاعلون بحيث يُصان العدل كما أراده الله؟ وفى المرحلة الثانية كان السؤال الرئيسي: أيكون الأساس فى ميادين اللغة والأدب مقاييسَ يَفرِضها المنطق لِتُطبَّق على الأقدمين والمحْدَثين على سواء، أم يكون الأساسُ هو السابقاتِ التى وردَت على ألسنة الأقدمين فنَعُدَّها نموذجًا يُقاس عليه الصواب والخطأ؟ وفى المرحلة الثالثة كان السؤال هو هذا: هل تكون الثقافة عربيةً خالصة، أو نُغذِّيها بروافدَ مِن كل أقطار الأرض لِتُصبِح ثقافة عالمية للإنسان من حيث هو إنسان؟ وجاء القرن العاشر فأخذ يضمُّ حصاد الفكر فى نظرات شاملة؛ شأن الإنسان إذا اكتمل له النُّضج واتسَع الأفق، وها هنا كان العقل قد بلَغ مَداه، فجاءت مرحلةٌ خاتِمة يقول أصحابُها للعقل: كفاك! فسبيلنا منذ اليوم هو قلوب المتصوفة.
وأما القسم الثانى من الكتاب ففيه نظرةٌ موجزة إلى الوجه الآخر من قطعة النقد، حتى لا نرى الحقيقةَ من جانب واحد؛ فإلى جانب الوقفات العقلية عند أسلافنا كان هنالك حالاتٌ رفَضوا فيها أحكام العقل ولاذوا بما نبضَت به قلوبهم حينًا، وبما أشبَع فيهم خيال الأيفاع حينًا آخر، وحاوَلتُ جهدى أن أُحلِّل المعنى المقصود بمصطلَح “اللامعقول” حتى لا يَنصرف فى الأذهان إلى شتم وازدراء، إنما هو لونٌ آخر يَنبع عند الناس دائمًا من صميم فِطرتهم الإنسانية، وكل ما فى الأمر أننى لا أجد هذا الجانبَ من السابقين قنطرةً تصلح لعبور اللاحِقين إذا أرادوا وَصْل الطريق، واكتفيتُ من جانب اللامعقول هذا بصورتَين: التصوُّف إحداهما، والسحر والتنجيم ثانيتُهما، ورأيتُ فى ذلك ما يَكفى لاكتمال الصورة التى أردتُ رسْمَها أمام القارئين.
إننى فى هذا الكتاب شبيهٌ بمُسافر فى أرض غريبة، حط رحالَه فى هذا البلد حينًا، وفى ذلك البلد حينًا، كلما وجد فى طريقه ما يَستلفِت النظر ويَستحق الرؤية والسمع، ومثلى فى رحلتى هذه مثل السائح؛ قد يُفلِت من نظره أهمُّ المعالم؛ لأنه غريبٌ لا يعرف بادئَ ذى بَدْء أين تكون المعالم البارزة، إلا إذا اهتدى بدليل من أبناء البلد، ولكننى أيضًا — مثل السائح الغريب — قد تقع عينى على شيء لا تراه أعيُن أبناء البلد؛ لأنه مألوف لهم حتى لم يَعودوا قادِرين على رؤيته رؤية صحيحة، ومن هنا كنتُ لا أستبعد وقوعى فى أخطاء بمَعنيَين؛ بمعنى إهمال ما لم يَكُن يجوز إهماله من معالم الطريق، وبمعنى وقوف النظر أحيانًا عند ما لا يستحق الوقوف عنده بالنظر، وواضحٌ أنه لو أراد مُسافر آخرُ أن يَستبدل لرؤيته منظارًا بمنظار لرأى رؤيةً أخرى، وانتهى إلى أحكام أخرى غيرَ التى رأيتُ وإليها انتهيت.
المصدر: اليوم السابع

اترك تعليقاً

إغلاق