نلقى معا الضوء على كتاب “الإنسان.. دراسة فى النوع والحضارة” لـ محمد رياض، يتحدث فيه عن الإنسان وحياته على ظهر الأرض أفكاره وتطور هذه الأفكار.
ويقول الكتاب فى مقدمته، مرت فكرة نشأة الإنسان عند المصريين القدماء بعدة مراحل، يبدو أن أولها كان الاعتقاد بأن الإنسان هو سليل الآلهة، وفى نحو بداية الألف الثانية قبل الميلاد ساد الميثولوجيا المصرية أن الإنسان قد نشأ عن دموع الإله “رع”، وبعد ذلك أصبح الاعتقاد أن الإله “خنوم” يشكل الناس واحدًا بعد الآخر من الطين.
هذا الاهتمام بالإنسان، نشأته وتطوره – كما توضحها أفكار الشرق القديم – لا تمثل بدايات هذا الفكر، بل لعل الإنسان بدأ يتعجب من نفسه منذ أن ظهر على الأرض، وبدأ يشق طريقه للسيطرة على الأرض وسيادتها، وقصة الإنسان الذى وجد آثار أقدام أراد أن يتتبعها ليعرف صاحبها، وانتهى به الأمر إلى أن يدرك أنها أقدامه هو، هى فى الواقع رمز لمدى ما يجهله الإنسان عن نفسه، ورغبته المتأصلة فى استكشاف المجهول بالتقصى والمغامرة والبحث والدراسة.
والإنسان هو أكثر الكائنات الحية على كوكبنا الأرضى غموضًا، لتفرده الفكرى بين جميع الكائنات التى تدب على سطح الأرض أو تَسْبَح فى مسطحات الماء، وهو برغم ذلك أحدث من ظهر إلى الوجود الأرضى، فعمر الأرض يتراوح بين أربعة وستة مليارات من السنين، والديدان عمرت التربة منذ 450 مليون سنة، وظهرت الأسماك غير ذات الفك منذ 400 مليون سنة، وعمر العقرب 350 مليونًا، والأسماك ذات الهيكل العظمى 300 مليون، والأمفيبيات 270 مليونًا، والزواحف 250 مليونًا، والحشرات الطائرة 225 مليونًا، والطيور 140 مليونًا، والحيوانات ذات الأكياس 80 مليونًا، أما الإنسان — بمقدماته وأشباهه — فلا يتجاوز عمره حدود المليون من السنين إلا قليلًا، بينما ظهر أجداد سلالاتنا المعاصرة قبل قرابة 30 ألف سنة فقط.
لقد ظهر الإنسان بعد أن انقرضت أنواع من الحياة عاشت ملايين السنين، ومع ذلك لم يكتب لنوع من الحياة أن يسود ويسيطر على أجزاء العالم مثل الإنسان، ولم يغير كائن من مورفولوجية الطبيعة وأشكال الحياة النباتية والحيوانية مثلما فعل الإنسان، وهو بعد أعزل من جميع أسلحة القوة التى تتمتع بها أشكال الحياة الأخرى. لكنه تفوق عليها باستخدام قدراته العقلية، مع احتفاظه بقوى الغرائز جميعًا.
لقد تحايل الإنسان على البقاء فى كل بيئة طبيعية، وتعايش مع كل أنواع الإيكولوجيات البيئية والنباتية والحيوانية وعاش عليها. ومع كثير من التضحيات، وعلى فترة زمنية طويلة، انتصر الإنسان وبقى وتكاثر حتى ملأ ظهر الأرض.
لم ينتصر الإنسان لأنه الوحيد بين الكائنات الذى يقف على قدميه طوال حياته، ولم ينتصر لأنه الوحيد الذى يستخدم يديه فى القبض على الأشياء والأدوات بإحكام تام، ولم ينتصر لأنه الكائن الذى يرى الأشياء مجسمة ببعدها الثالث، ولم ينتصر لأنه يستخدم قواه الذهنية. لم ينتصر لأنه الوحيد بين الكائنات الذى يملك كل هذه الميزات فقط، بل انتصر لأنه لا يوجد “إنسان فرد” بل إنسان جماعى حضارى يظهر من خلاله الإنسان الفرد فى الظروف المواتية.
حقًّا؛ هناك كائنات كثيرة تؤلف حياة جماعية، لكن الغرائز البيولوجية وحدها تجمعها فى تجمعاتها الهيراركية النمطية التى لا تحيد عنها طوال حياتها وإلا انتابها الهلاك. بينما التجمع الإنسانى ليس نمطيًّا منذ الأزل وإلى الأبد، بل تتغير أنماطه وقوالبه استجابة للمواقف المختلفة، والفضل فى ذلك راجع إلى الحضارة الإنسانية.
والحضارة هى الوجه الآخر للإنسان: تشتمل على كل مقدرات الإنسان وأعماله، من الحصول على الغذاء إلى أدواته الإنتاجية وكل منتجاته التنظيمية وأيديولوجياته وأفكاره الغيبية وإبداعه الفني. لهذا لا يوجد مجتمع بشرى بدون حضارة مهما كانت درجة بدائيته، ولأن الإنسان الجماعى يتعلم حضارته منذ نعومة أظفاره، أمكنه — بواسطة هذه القدرة على التوارث الاجتماعى والحضارى — أن يبنى باستمرار فوق ما تلقاه من ميراث. وبذلك تنمو الحضارة وتنفتح آفاق جديدة أمام المغامرة الإنسانية المادية أو التكنولوجية أو المعنوية والفكرية. ونحن اليوم نحتفظ فى داخلنا الحضارى بتجارب المليون سنة الماضية: على سبيل المثال تجارب محاولة الوقوف المنتصب على القدمين، ونمر بها سراعًا ليصبح فى إمكاننا الآن أن ننتقل بسرعة هائلة من مكان إلى آخر نتيجة لتقدم تكنولوجية إنتاج وسائل النقل. وفى الوقت نفسه نحتفظ بتجارب ومحاولات النطق باللغة دون أن نقف عندها، بل نمر عليها سراعًا لنتعلم أو نكتب روائع الأدب.
المصدر: اليوم السابع