نلقى الضوء على كتاب “مائدة أفلاطون” كلام فى الحب، لـ محمد لطفى جمعة، والذى يعرض للعديد من أفكار الفيلسوف الشهير أفلاطون، الذى يعد من أبرز المفكرين والفلاسفة عبر التاريخ.
يقول الكتاب عن تاريخ الفلسفة:
لم تولَد الفلسفة فى بلاد يونان ذاتها، إنما وُلدت بين ظهرانى الإغريق الذين كانوا يعيشون على شواطئ آسيا الصغرى، وفى جزر بحر إيجه، وكان ظهورها فى الوقت المناسب بعد أن مهَّدت لها الطريقَ الأشعارُ الطويلة، والأعياد الدينية، والحروب الداخلية، وبعد أن بدأ الشعراء الحكماء يدوِّنون خواطرهم وتأملاتهم، وبعد أن وُلد عِلم الكائنات، وترعرع فى القرن السابع ق.م.
ملأ هؤلاء الإغريق البعيدون عن وطنهم البحار بسفنهم، وطافوا أنحاء الأرض فى سبيل التجارة، وأسسوا مدنية، وهذه المدنية الراقية، وعلاقاتها بالأمم المختلفة، وسياحات أربابها فى المحيط والتطورات التى اقتضتها أعَدَّت الأفكار للفلسفة.
وكل المدن التى كانت منتثرة على الشواطئ، فضَّلت حريتها واستقلالها على الانضمام لبعضها البعض، لتكوين وحدة سياسية، ولم تتم تلك الوحدة إلا لمحاربة الفرس؛ إنما كانت علاقاتها ببعضها البعض مستمرة.
وكانت تنطلق فى كل أربع سنين من كل المدن والجزائر السفنُ الكبرى مملوءة بالهدايا، والقربان، والرجال، والنساء، مُزيَّنين ومُزيَّنات للاحتفال بعيد أيونيا فى جزيرة ديلوس، وقد امتزجت بهذا العيد الدينى الألعاب الرياضية والرقص، وهذان أعدَّا فنَّ النحت بإعداد الأبدان الحية، وفى ساحةٍ كبرى كان الشعراء ينشدون قصائدهم، والمنشدون قصائد غيرهم، وفى الساحة العامة كانت تُنصب سوقٌ تتبادل فيها المتاجر؛ فيحضر الأثينى بفَخَّاره، والميليزى بصوفه، وأهل أيونيا بزيوتهم الطيبة، وعطور جزيرة العرب، وتِبْر القوقاز (قولشيت)، والأحجار الكريمة، والأقمشة الغالية، كلٌّ مِن مصدره.
وكانت كل مدينة منشقَّة على ذاتها، وقد استُبدلت الملكية البطريرقية (سيادة الوالد) التى كانت فى زمن هوميروس بنظام أوليجاركي، ثم اختفى هذا النظام. وقد اقتضت هذه الأحوال وضع قوانين جديدة؛ عامة وخاصة.
وكان التشريع صعبًا فى هذه المدن القوية لارتباك الحياة ونموها؛ لذا قام الشعراء الأقدمون وأوائل الفلاسفة بأعباء السياسة، واشتغلوا بها باعتبار أفضليتهم.
وفى شعر هوميروس لا يختلف التعليم الأدبى عن الحقائق ونتائجها، ثم بدأ التفكير ضعيفًا عند هزيود؛ وذلك لعلاقته بعواطف الشعراء. يذكر هزيود خلافه مع أخيه بيرسيه عندما يكتب فيقول: «العراك نوعان؛ الأول مذموم ومخيف، وهو الخصام والدعوى، والثانى شريف وعظيم، وهو مباراة المتفننين وأرباب الصنائع.» وقد أوحى إليه ما قاساه من ظلم الملوك ديوانَ «البلبل والباشق»، ومما جاء فيه:
«لتتحارب الحيوانات المتوحشة والأسماك والطيور، ولتُفنِ بعضها بعضًا؛ لأنه ليس بينها عدل؛ أما البشر فقد أعطاهم زفس العدل، وهو أحسن الأشياء.» وفى قصيدة «العمل والأيام»: السعادة فى العمل والفضيلة، وبهما يحصل الإنسان على بركة الرَّب، ورضى «المشتري»، وبهما يتقى شرَّ الكذب والظلم.
هذا أول أشكال الفلسفة العملية، وليس لدينا إلا نُبذٌ من النثر والشعر الموضوعين فى القرون الثلاثة ٩–٦ قبل المسيح، ثم ظهر الحزن (وهو علامة الأمم المتعَبة المفكِّرة) فى شعرِ ممزم الأزميرى الذى وُلد عام ٦٣٢ق.م.، وهو يتغنى بذكْر الشباب، ويتحسَّر على الشيخوخة. وتيونين دى ميجار الذى وُلد عام ٥٨٠ يقول: «أفضل شيء لأهل الدنيا ألا يُولَدوا، ولا يروا أشعة الشمس المشرقة، ولكن إذا وُلدوا، فالأفضل الخروج إلى عالم الخفاء بأسرع فرصة، وأن يرقدوا تحت الأرض.»
ومن حكماء هذا العصر الحكماء السبعة الذين لم تُعرف أسماؤهم، وحاولوا أن ينشروا الأفكار الأدبية فى جملٍ قصيرة بدون تطويل، وجُملهم عبارة عن حقائق مفرَّغة فى قالبٍ سهل؛ وهى إما ثابتة بذاتها، أو قائمة على سلطةٍ دينية.
وكذلك الشعراء صولون وفوسيلت وتيوجينس، عبَّروا فى شعرهم عن نتيجة الخبرة الإنسانية، وخَطَرِ العنف، وضرورة الاعتدال فى الحياتين، الخاصة والعامة، وفى الوقت نفسه كانت السريرة الأدبية تتطهر، ثم ظهرت فكرةُ الله.
يناجى أرشيلوك الشاعرُ الربَّ زفسَ: «زفس أيها الأب الأعلى، يا مَن تحكم مِن أعلى السماء، وترى ما يفعله الناس من خير وشر، أنت تعلم ما هو عدل، وما هو ظلم فى عالم الحيوان، إذا كان زفس صاحب القدرة كلها، فكيف يسود الظلم؟!»
ومثله يقول تيوجتيس: «مَن ذا الذى يرى الظلم فى العالم ثم يحترم الأرباب؟ زفس أيها الأب الأعلى انصر العدل.» هذه الثورة ضد الدين هى الفلسفة الأولى.
إن قصيدة الأعمال والأيام هى أقدمُ تعبيرٍ للفلسفة العملية، وقصيدة التيوجوين التى تُنسب إلى هيزود هى أول شكلٍ من أشكال الفلسفة النظرية، واسم هيزود أول الأسماء.
وفى القرن السادس ظهر نوع الأورفزم من الأناشيد؛ فإن أونوماقريط — أحد العلماء الذين كانوا محيطين ببسترات — نشر أغانى مقدسةً باسم أورفيه ٥٢٠–٥٤٠ق.م.، وقد استنزل فيها الوحى من الأساطير القديمة، ومن الأفكار التى كانت ذائعةً ومنسوبةً إلى الشعراء الأقدمين، وكلُّ ما نعرفه عن الأورفين وصل إلينا من «الإسكندريين» الذين شوَّهوا تلك الأغانى بأن جعلوها خليطًا من سائر الأفكار، وأعطوها صِبغة مقدسة بأن نسبوها إلى الحكماء الأُوَل.
ومن الأغانى التى استمدَّت من الأساطير فكرتَها، أغنيةٌ جميلةٌ على الليل والزمان اللذين يلدان الحُبَّ ذا الجَناحين المذهبَين (إيروس)، فينمو ويكبُر وينحني، فيكون ظهره السماء بنجومها، ومن نور عينه يخرج القمر والشمس، ومن دموعه يخرج الجنس الإنسانى البائس، وابتسامته تُخرِج شَعب الآلهة المقدس.
وفى القرن السادس أيضًا كتب فيرسيد بالنثر عن الطبيعة والأرباب، وما دوَّنه من الكوزمولوجيا لا يزال مرتبطًا ارتباطًا شديدًا بالتيوجونا، ولكنه يفوق ما دوَّنه هيسود.
ويمتاز فيرسيد بأمرين؛ الأول أنه ميَّز المواد اليابسة (الأرض) عن غيرها كالمواد الجوية، وفرَّق بين المادة والقوة التى تُدبِّرها.
ويلاحظ المطلِع على تلك الفترة من تاريخ الفلسفة أن فكرةً واحدةً كانت سائدة، وهى فكرة النظام والتناسب والانسجام؛ فهى الفكرة السائدة فى ما يدوِّنه الحكماء والمشترعون وغيرهم ممن يريدون أن يسود الانسجام.
المصدر: اليوم السابع