آداب

ورحل النبيل فؤاد عزب

بقلم: عبدالعزيز قاسم

• يا لهذا الصباح!
وحالما استويت على مقعدي وبجواري كوب القهوة الذي أعددته كعادتي كل صباح، ورأيتني أقضم في “الكليجا” التي أحبها، لكسر مرارة السمراء التي أدمن؛ لأباشر تصفح رسائل “الواتساب” التي يكتظُّ جوالي بها من الأصدقاء والقروبات؛ إذا بخبرٍ مزلزلٍ أطار عني ذلك الصفاء الذي كنت عليه.

• “وفاة د. فؤاد عزب”، أية جملة طاعنة كانت! تعمَّقتْ لصميمي، وارتجَّ بدني كله لها، ولبثتُ هنيهة أريد أن أستوعب ما قرأت، وقد غامت الدنيا أمام عينيّ، ولم أملك سوى أن أفزع -كما المتنبي- إلى تكذيب الخبر، واتصلت على صديق عمره وصفيِّ روحه الأستاذ الوفي نجيب يماني، الذي ردّ عليّ وأكد الخبر.

• تجالدت وأنا أهاتف أخي نجيب، بيد أن الدمع غلبني -ولا تُذرف الدموع إلا لغالٍ عزيز- وأنا أتذكر ذلك الانسان النبيل، والرسائل التي كنا نتبادلها عقب أية مقالة أكتبها، أو مقالة الأربعاء التي يتحفني بها، فقد كان هو الكاتب الوحيد الذي لا أقرأ مقالته أبدًا إلا في هدآت الليل وصفاء المزاج، لأنه -برأيي- أحد المبرّزين في تناول القضايا الاجتماعية بأسلوبه الأدبي المتفرد.

• تعود بي الذاكرة الآن إلى عقدين من السنوات، إذ التقيته في كازينو “النخيل”، إبان اشرافي على ملحق “الرسالة” بصحيفة “المدينة”، بدعوة من صديقي نجيب، وأتذكر أن أبا غنوة محمد صادق دياب يرحمه الله كان من أولئك الحضور، واستمعت للدكتور عزب يتحدث عن مشكلة عائلية له بمرارة، ويستمع لتعليقات أصدقائه المقربين.

• أحببت صفاء الرجل، ووقتما عدت للمنزل، كتبت له رسالة طويلة، وقلت له أن دافعي انسانيٌّ فقط، وأنني من خارج دائرة أصدقائك القريبين منك، وأكتب لك بكل حياد، ومن الضروري أن تستشرف ما سيكون بعد 15 عامًا، ولربما حدة القضية اليوم واشكالاتها تحجبك أن تطالع المآلات، وذهبت لأشغالي وقد ارتحت، لأفاجأ باتصال كريم منه في اليوم التالي، يتحدث لي بكل تأثر.

• أخبرني بأنه قرأ رسالتي مرات ومرات، وشكرني على ما نصحت به، وأنه سيفعل ما قلت له، وحفظ لي مبادرتي تلك، ومضت الأمور بعد ذلك تتوطد معه في أخوة أنيقة وصداقة راقية، عبر سنوات ناهزت العشرين، تجمعنا مناسبات قليلة، ولكننا نتبادل الرسائل كل أسبوع حول المقالات التي نكتبها، وقال لي قبل عشرة أيام بحرصه على اقتناء كتابي الجديد عن أوزبكستان ورغبته في زيارتها.

• الكاتب العكاظي د. فؤاد عزب، أحدُ ألمعِ من يكتب المقالة بأسلوبٍ أدبيٍ بديع، وافتتنُ جدًا بمفرداته وتشبيهاته التي لا أعرف أحدًا من الكتبة السعوديين يماثله، ولطالما ألححتُ عليه أن يطبع أجود تلكم المقالات، لأنها تستحق أن تكون بين دفتيِّ كتاب، ولم أجامله وأيم الله، فقد كنت مفتونًا برشاقة المقالة، وخاتمتها التي يتفنن فيها.

• أتمنى من نادي جدة الأدبي الالتفات إلى هذا الكاتب الذي يستحق التكريم منه، وإقامة أمسية تقرأ أسلوبه الأدبي الرفيع الذي كان يكتب به المقالة، واستضافة بعض مجايليه من أدباء جدة، ليحكوا عن طقوسه الكتابية، وتلك الإنسانية التي لا تفارقه أبدًا، وخصلة الوفاء لأصدقائه ومن عملوا معه، يتذكرهم بكل الاجلال والحب، ويسطر ذكرياته بكل أناقة في مقالاته.

• فؤاد عزب، أتذكر أبَّهته وغليونه وسَمْته وجلسته، التي تذكرك بالطبقة الارستقراطية إبان الملكية المصرية، ولكن حالما تتعمَّق في حياته؛ لتجده ذلك الانسان البسيط الذي يواسي المحتاجين بماله، ويبرُّ بالضعفاء، وكان يعالج المعوزين على حسابه الخاص في مستشفى “الأطباء المتحدون” بما أخبرني بعض أصدقائه.

• كل الدعاء بالرحمة لذلك النبيل، الذي لطالما دافع عني في بعض المجالس التي لا تخلو من مبغضين لمواقفي الوطنية. كل الدعاء بالمغفرة لذلك الانسان الذي امتدت يده بالإحسان لكثيرين من المقربين له، ولصاحب المواقف التي لا يمتنّ أبدًا بها، ولا يذل أصحابها ويترفع عن ذكرها.

• تعازينا لأبناء د. فؤاد عزب وأحفاده، ولأصدقائه القريبين منه.
يتخطَّفُ الموتُ أحبابنا وأصدقاءنا، ونحسُّ باللوعة والفقد والألم لأولئك الفضلاء الذين استوطنوا القلب وأسروا الأرواح بجميل ما صنعوا ونبل ما وقفوا، وذهبوا للقاء ربهم، لهم الخلود فقط في أنفسنا ودعواتنا التي لا تنقطع والذكر الحسن لهم ما حيينا.

لنا لقاء عند مليكٍ رحيمٍ غفورٍ أبا فراس.

اترك تعليقاً

إغلاق