أخبار
«ميثاق النساء»… إسقاط ورقة التوت عن التعاسة الجماعية
الشاعرة اللبنانية حنين الصايغ في روايتها الأولى
من خلال شخصية أمل أبو نمر المنتمية لطائفة الموحّدين الدروز، تمارس الشاعرة اللبنانية حنين الصايغ، في روايتها الأولى «ميثاق النساء» (دار الآداب، 2023)، فعل التفكيك الاجتماعي والديني بجرأة، تُسقط ورقة التوت عما يُسبّب السكوت عنه تعاسة جماعية.
الرضوخ المُتوارَث والمجتمع القروي والسلطة الأبوية، موضوعات حاضرة تماماً في الرواية. يقابلها نقيضها: الدراسة في الجامعة الأميركية ببيروت، والانعتاق، والحق في تقرير المصير، وحرية الجسد من أشكال انتهاكه. تحمّل حنين الصايغ بطلتها الأثقال الملقاة على أكتاف النساء طوال أجيال. امتداد السرد من الجدّة فالأم والعمّة، إلى البطلة الشابة وطفلتها، بمثابة سلسلة عذابات كان لا بدّ من كسرها، وإن كلّفت المحاولة الثمن الباهظ.
أمل انعكاس للصوت الغائب والصرخة المكتومة. ظلّت طوال فصول السرد، تُقدِم وتتراجع، تبني وتسقط الأشياء فوق رأسها. شخصية حيّة جداً، مُفرطة في الواقعية، مُحمّلة قهر المرأة المُتربّص في أعماقها صوت رجل يؤنّب دائماً. تخوض معارك العالم الخارجي بجانب معاركها الداخلية. وكلاهما مكلف، نتج عنه إبرام الصفقات مقابل المعاشرة الزوجية، والعراك والجدال والابتزاز العاطفي، والاستباحة الجسدية في مختبرات التلقيح الاصطناعي من أجل حَمْل تحقق من تلقائه بعد فشل محاولَتي الإنجاب بالقوة.
أمل هي الفَرْض والسَوق والتحكُّم والإحساس بالمُحاصَرة، وما يصنّفه الآخرون «واجبات» نسائية. لكنها القرار النهائي والتحليق المُنتَظر والصوت المُستَعاد بعد بلوغ أقصى الألم. كأنّ المشتهى لا يُتاح إلا بانقطاع النَّفَس، والخلاص يتعذّر دون الجَلْد وذروة المحنة.
من خلال شخصية أمل أبو نمر المنتمية لطائفة الموحّدين الدروز، تمارس الشاعرة اللبنانية حنين الصايغ، في روايتها الأولى «ميثاق النساء» (دار الآداب، 2023)، فعل التفكيك الاجتماعي والديني بجرأة، تُسقط ورقة التوت عما يُسبّب السكوت عنه تعاسة جماعية.
الرضوخ المُتوارَث والمجتمع القروي والسلطة الأبوية، موضوعات حاضرة تماماً في الرواية. يقابلها نقيضها: الدراسة في الجامعة الأميركية ببيروت، والانعتاق، والحق في تقرير المصير، وحرية الجسد من أشكال انتهاكه. تحمّل حنين الصايغ بطلتها الأثقال الملقاة على أكتاف النساء طوال أجيال. امتداد السرد من الجدّة فالأم والعمّة، إلى البطلة الشابة وطفلتها، بمثابة سلسلة عذابات كان لا بدّ من كسرها، وإن كلّفت المحاولة الثمن الباهظ.
أمل انعكاس للصوت الغائب والصرخة المكتومة. ظلّت طوال فصول السرد، تُقدِم وتتراجع، تبني وتسقط الأشياء فوق رأسها. شخصية حيّة جداً، مُفرطة في الواقعية، مُحمّلة قهر المرأة المُتربّص في أعماقها صوت رجل يؤنّب دائماً. تخوض معارك العالم الخارجي بجانب معاركها الداخلية. وكلاهما مكلف، نتج عنه إبرام الصفقات مقابل المعاشرة الزوجية، والعراك والجدال والابتزاز العاطفي، والاستباحة الجسدية في مختبرات التلقيح الاصطناعي من أجل حَمْل تحقق من تلقائه بعد فشل محاولَتي الإنجاب بالقوة.
أمل هي الفَرْض والسَوق والتحكُّم والإحساس بالمُحاصَرة، وما يصنّفه الآخرون «واجبات» نسائية. لكنها القرار النهائي والتحليق المُنتَظر والصوت المُستَعاد بعد بلوغ أقصى الألم. كأنّ المشتهى لا يُتاح إلا بانقطاع النَّفَس، والخلاص يتعذّر دون الجَلْد وذروة المحنة.
مآزق وذنوب
زواج أمل في سنّ الخامسة عشرة أتاح لها فرصة إمكان إكمال دراستها، مقابل ضيق فرص المستقبل أمام فتيات القرية. ستّ نساء في الرواية، ضاقت خياراتهنّ جميعاً. جدّة أمل المذعورة من مخابرات إسرائيلية تقيم فقط في رأسها، هي التي حين تسرّع الجدّ بطلاقها، بعد ثلاثين عاماً، بنى جداراً يفصل غرفته عن غرفتها. ولما حلّ موته، حُرمت وداعه لما تقتضيه الأعراف الدينية. والدة أمل أمضت العمر في خبز الصاج وإخفاء صوتها. فضّلت تجنّب الأسئلة والمشاركة حتى لا يُصاب الرأس بأوجاع إضافية. الأم التي لم تنجب صبياً، بل أربع بنات زوّجتهنّ جميعاً ولم تتحقق سعادتها. علاقتها بأمل شبحٌ يحوم بلا وُجهة. فيها التعلّق، وأيضاً القهر. «أشعر بأنّ حياتي لن تكون سوى تكرار عصري لحياتها، وأنّ الألم هو ميثاقنا المقدس»، تقرّ باستحالة فصل نفسها عما يحدث لها، كأنّ ما عايشته الأم ينتقل كالمصائر المحتومة إلى ابنتها، وما حُرمت منه قدره أن يعذّب روحها.
مرّ العمر على العمّة سليمة وهي تتخيّل جدار فصل والديها ينهار على رأسها. لمحت في ابنة أمل أمَّها المعذّبة، إيماناً بعقيدة التقمّص لدى الموحّدين الدروز، ناذرة إياها للماضي. على النقيض. أما نرمين شقيقة البطلة، فاختارت مغادرة القرية إلى العالم الآخر، فتزوّجت درزياً أميركي الجنسية، وكانت أولى نساء الرواية المتجرّئات على توسيع الأحلام وإطلاق النكات تجاه المجتمع القروي. «صحوتها الدينية» بعد سنوات الزواج، والمتأتية من المرارة، وانزلاقها إلى وديانها السحيقة؛ خطّا تراجيدية سقوطها السحيق في قعر النفس وعتمة أعماقها، لتجد بالإجهاض والطلاق خلاصها من «نار جهنّم» وتهمة الكفر، لارتياد والد زوجها الكنيسة، ولإمكان ألا يكون دم المولود درزياً صافياً.
رحمة هي النبع العذب وسط ظمأة أمل وتشقّقات وجودها. يمكن للنقص أن يمتلئ، وللإحساس بالقبح أن يتجمّل حين تنجب. الأم والابنة وجهان لحب يكمّله الخوف، وتعلّق يُحدث عطباً أبدياً. ستّ نساء في مأزق الدور والمُلكية، في كباش الممنوع والمسموح، وقبضة الأمر الواقع والأخ الأكبر.
نار وماء
بإطلاق حنين الصايغ صوت المرأة الخافت، لا تشهر عداء لرجل أو تعلن خصومة عمياء. الرجال في حياة أمل قسوة ونجاة معاً. لا تدينهم بقدر ما تنادي بحرية خيار النساء. والأرجح أنها تعطف عليهم رغم إلحاقهم الضرر، لإدراكها أنهم أيضاً ضحايا. الأب الجبار يلين في سبعينه بعد عمر أمضاه في إرضاء المشايخ. ومثل أبيه، بنى جدراناً فاصلاً. سلَّم أمل لتاجر درزي ثري ساومها في الثالثة فجراً بين سريره أو المغادرة النهائية. شراكة على هيئة صفقة من ألفها إلى يائها. مع ذلك، لم تزجّ الصايغ الرجل في وضعية الشرّ المطلق. أقرّت بـ«تضحيات» الزوج سالم، وإن قبض ثمنها سلفاً. وتصالحت مع الأب وكأنه طفلها. أما الرجال الآخرون، فيختزلون النبل: أستاذها خلدون الذي مات قرباناً للحب، وصهرها جاد العاشق حتى التخلّي، وحامد الكاتب المصري- الألماني، حبّها وعوضها. الرجل نار وماء.
المساءلة الكبرى
يشق الحب والخلاص والصفحة الجديدة، الدرب نحو الأفق الأرحب، وتخطّي النظرة الدونية إلى النفس والشعور بالتحقير واللاعدل. تعلي الرواية قيم التعدّد والاتّساع، أمام سردية اجتماعية تردّد المحفوظ من دون مساءلته، وتصدّق المفهوم بلا إخضاعه للنقد. هدير الحب بين أمل وحامد، يشفي الجروح ويُهدئ الآلام.
تُعكّر الرواية الراكد على صفحات العقل، بأحجار تُرمى من العمق، لا من الضفاف، لتُحدث ضجة وتُزعج. «ميثاق النساء»، وهو عنوان مستعار من إحدى رسائل كتاب الحكمة لدى طائفة الموحّدين الدروز، يغدو النتيجة الحتمية للهدم، عوض السبب الجاهز للبناء، والمساءلة الكبرى لما يُشرَّب كالرضاعة الطبيعية: الحب والحرية والأمومة والدين والثقافة والجغرافيا والتربية والعطاء والذنب. بمتانة سردية، ولمعة شعرية، تُنجز الصايغ روايتها الأولى.