أخبارثقافة عالمية
بغداد مهد الصوفية.. ورابعة العدوية أشهر المتصوّفات
“أريحوا القلوب، فإن القلوب إذا كلّت عميت”.
عُرف عن المتصوّفين الزهد والتقشّف بالمأكل والملبس؛ كان بعضهم نباتياً صرفاً، يمارس رياضات روحية، ويُنهي العامّة عنها خوفاً عليهم من المشقّة، كما يُعتقد بكراماتهم في الثقافة الشعبية كالمشي فوق الماء.
“الصوفية، هي علم تعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاقِ لنيل السعادة الأبدية”. وهناك كتب ومصادر ودراسات كثيرة جداً في التراث العربي عن الصوفية وطرقها وغاياتها. إذ تمّ تفسير التصوّف في نحو ألفي مرجع.
التسمية والممارسات
تعدّدت الآراء حول تسمية الصوفية، ثمّة مَن يقول بأصلها اليوناني من كلمة (الثيوصوفيا)، بحسب المستشرق لويس ماسينيون، وهو أوّل من حقّق كتاب الحلاج “الطواسين”، ويذهب البعض إلى أصلها الهندي “السوفية”، وهم حكماء الهند.
ويشير رأي آخر إلى مصدرها العربي؛ “إنها من الصوفة، لأنّ الصوفي مع الله كالصوفة المطروحة، لاستسلامه إلى الله. وأصلها الشائع من الصوف؛ إذ ارتدى المتصوّفة الصوف تعبيراً عن الخشن والزهد والتقشف”.
المرجعية الإسلامية
يؤكّد الكاتب د. محمد جلال شرف على المرجعية الإسلامية للتصوّف بقوله: “لم يحدّثنا الشابشتي في كتابه المهم “الديارات” عن أي صوفي واحد زار الأديرة، أو اتصل برهبانها سواء في العراق أو مصر أو الشام، ما يدلّ على أن الصوفيين المسلمين، لم يتأثروا في حياتهم وأقوالهم وأفعالهم، بما يحدث في الأديرة”.
كان التصوّف الإسلامي سريع التفاعل، فالمتصوّف الذي يتّسم بالحيوية الأدبية، كان يأخذ العلم من المتصوّف الكيمياوي، فكان التلاقح العلمي والفكري بين المتصوّفة يتمّم إبداعاتهم.
بغداد والتصوّف
نشأ التصوّف في بغداد باعتبارها مدينة علمية وحضرية، جمعت إليها الثقافات كلّها، ووفد إليها العلماء والقضاة والشعراء والمهتمون بعلوم الفقه والشريعة، وكان لا يتوّج الشعراء والعلماء وسواهم إلا فيها تحديداً.
يذهب بعض الباحثين إلى رأي رمزي مفاده أن بغداد اكتسبت الوسطية من موقعها الجغرافي في وسط العراق، وفي وسط النهرين؛ فهي تقع على نهر دجلة، ويقترب منها نهر الفرات، فتميّزت عن العواصم الأخرى؛ باريس مثلاً فيها السين فقط، وبودابست فيها الدانوب وهكذا.
بُنيت بغداد كمدينة مدورّة لا مثيل لهندستها. يقول الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد”: “كان لا يُعرف في أقطار الدنيا مدينة مدوّرة سواها”.
الدائرة تُماثل العدد (5) السعيد والمحظوظ، إذ ذَكرَ عالم النفس لودفيغ بانيث، في كتابه “رمزية الأعداد في الأحلام” وعبر شهادات مرضاه، سحره وقوّته؛ الخصوبة والنماء والازدهار.
أراد الخليفة أبو جعفر المنصور، مؤسّس بغداد، أن تكون عاصمة للخلافة العباسية، سُمّيت مدينة السلام آنذاك، تنفيذاً لفكرة جيو سياسية – مائية، واقتفاءً لغاية هي سهولة حماية الدائرة من سواها من الأشكال الهندسية. تُمثّل الدائرة نظاماً مائيا مستقلاً بذاتِه، ينتج أنظمة دفاعية خاصة.
يقول الكاتب والباحث عزيز السيد جاسم، مؤلف كتاب “متصوّفة بغداد”: “تقودنا الحقيقة الجغرافية إلى استخلاص علاقة خفية بين (الوسطية) و (التدوير)، ففي الدوائر – عادة – يكون الوسط أكثر دقة، ونظامية، وسهولة، ووضوحاً من المثلثات والمربعات والأشكال الهندسية الأخرى، فكان توسّط بغداد متّصلاً ببنائها بصورة مدينة مدوّرة”.
لولا بغداد لما كان التصوّف
يذكر ابن الجوزي في كتابه “مناقب بغداد” بوصفها مدينة حضرية، صهرت الجميع في ثقافة علمية وأدبية وعمرانية. “كلّ محلّة فيها، كبَلد من بلاد الشام.. الدنيا باديةٌ وبغداد حاضرتهُا؛ فيها ثلاثة جسور، أحدها لعبور النساء وأنهار كثيرة، مساجدها لا تحصى، أما حماماتها فكان بها 60 ألف حمّام”.
يضيف: “هي حاضرة للأدب والعلم والشعر، نقلت كتباً لا حصر لها، واحتوت أجواء بغداد الفكرية المعارف، ودمجت العناصر الإيجابية بحركتها المزدهرة”.
وعليه، بفضل بغداد ظهر المتصوّفة من أمثال: أبو هاشم الزاهد (أوّل من لُقّب بالصوفي)، معروف الكرخي، بشر الحافي، أبو يزيد البسطامي، منصور بن عمار، الحارث بن أسد المحاسبي، السري السقطي، الجنيد، أبو سعيد الخراز، أبو الحسين النوري، الجنيد، عبد القادر الجيلاني.
مقبرة المتصوّفة
اتّهم الحلاج بالزندقة، وهو من أكثر أقرانه شهرة وتأليفاً أدبياً؛ قُطّع جسده ونُثر على نهر دجلة، ودفن الباقي منه في قبره الموجود ببغداد، كما يقول العلامة مصطفى جواد.
“الشرق” زارت مقبرة المتصوّفة (مقبرة باب الدير العتيقة، سمّيت لاحقاً بـ “مقبرة الشيخ معروف)، وعاينت قبريّ الجنيد والسري سقطي وسواهما، كما زارت قبر الحلاج الموجود خارج المقبرة في بغداد الكرخ، واستمعت إلى شهادات الناس، حول قيام وفود شعبية كثيرة من الهند وباكستان وإيران بزيارته زحفاً على اليدين في خشوع وهيبة.
ومن البعثات الديبلوماسية الأجنبية، كانت زيارة السفير الفرنسي لضريح الحلاج في بغداد. يقوم مريدوه باستمرار بتوزيع الحسنات والهبات على الفقراء، واستقبال النذور، والقبر راهناً يتبع حالياً إلى ملكية الوقف السني.
مؤلفات الحلاج
“الطواسين”، “ديوان الحلاج”، “نزهة البستان”، وفيه أبرز مفاهيمه الفكرية والروحانية، عن البلاء، والتجلّي، والتفويض، والتنزيه، والتوكّل، ويشتمل أيضاً رسائله.
يقول الحلاج:
“والله ما طلعت شمس ولا غربت، إلّا وحبك مقرون بأنفاسي
ولا جلستُ إلى قوم أحدّثهم، إلّا وأنت حديثي بين جلاسي”
قال عنه الإمام عبد القادر الجيلاني، وهو مَن انتهت إليه رئاسة بغداد علماً وعلماً وحالاً وإفتاءً: “تعثّر الحلاج ولم يكن في زمانه من يأخذ بيده، ولو أدركته لأخذت بيده”.
اختلفت الآراء في الحلاج، لكن الأدب العربي، وبعض من المستشرقين، أعادوا إليه الاعتبار بوصفه كفاحياً وأديباً كبيراً، تمّ توظيفه في الشعر والمسرح والدراسات الأدبية.
رابعة العدوية أشهر المتصوّفات
لا يذكر تاريخ التصوّف العربي، متصوّفات نساء سوى “أم الخير” وهي رابعة بنت إسماعيل العدوية، المولودة في مدينة البصرة (100هـ / 717م)، من أب عابد فقير، وهي ابنته الرابعة، وهي أوّل من رسخت فكرة الحب الإلهي في الفكر الصوفي تأليفاً وممارسة، بحسب المستشرقة الألمانية آن ماري شيمل، ثمّ من بعدها جلال الدين الرومي وآخرين.
كتبت موسوعة المعارف الإسلامية عنها، “أن رابعة تختلف عن متقدّمي الصوفية الذين كانوا مجرد زهّاد ونسّاك، ذلك أنها كانت صوفية بحق، يدفعها حب قوي دفاق، كما كانت في طليعة الصوفية الذين قالوا بالحب الخالص، الحب الذي لا تقيده رغبة سوى حب الله وحده”.
لكن هناك نساء صالحات وعالمات مثل خيرونة الفاسية، والسيدة محلة المراكشية، التي اشتهرت بالفقه، والسيدة منية بنت ميمون الدكالي في التصوّف.
تقول رابعة:
أحِبُكَ حُبّيْنِ حُب الهَـوى
وحُبـاً لأنَكَ أهْـل لـِذَاك
كان لها مساجلات مع الصوفي أبي سفيان الثوري، والحسن البصري، وشفيق البلخي، ومالك بن دينار، وكان هؤلاء من زوّارها ينصتون إليها.
تأثير بغداد على جغرافيا التصوّف
هناك رأي قاطع بأن “التصوّف عراقي حصراً، انتقل إلى مناطق كثيرة من بغداد”، كما تقول د. عائشة عبد الرحمن، حول رحلة الشاعر الكبير أبي العلاء المعري إليها.
ويقول الباحث المغربي في الجماليات، وفي التراث الصوفي حسن لغدش: “بغداد هي مطمح كل عالِم وأديب يجد في مواهبه ما يؤهّله للظفر بشهادة من حاضرة العربية والإسلام”.
“التصوّف في المغرب، هو البعد المعرفي للولاية (الأولياء والصالحين)، ينهلُ من صوفية الحقائق- نهج البسطامي، وكذلك صوفية الأخلاق- نهج إمام العارفين الجنيد، وهما قطبا التصوّف المغربي، وكلاهما عاش في بغداد”.
تنتشر في المغرب الطريقة القادرية أيضاً التي أسسها مولاي عبد القادر الجيلاني القائل: “التصوّف، هو الصدق مع الحقّ، وحسن الخُلق مع الخَلْق”.
القادرية، هي أوّل طريقة صوفية في أفريقيا كلها، انتشرت من المغرب إلى نيجيريا والسنغال أيضاً، وهي قائمة على مبدأ إشراقي، ومرتكزة على مبدأ التزكية، أي تخلية النفس من الشرور وتحليتها بالخير.. الصوفية، هي ردّ فعل على الحياة المادية وهي الطريقة المُثلى للتقريب ما بين المذاهب”.
التصوّف في أوروبا
يشهد التصوّف في الغرب، شهرة كبيرة وعناية شعبية ومؤسساتية أوروبية، يدلّ على ذلك الإصدارات الكثيرة لقصائد جلال الدين الرومي والحلاج والشيرازي، وكأنّ العالم قد وجد في الحبّ، إعانةً كبيرة على تخطّي الذنوب والحروب والمآسي، كما وجد دعاة التجديد الإصلاحي الديني في الصوفية، صورةً مشرقة عن الإسلام.
المصدر : الشرق