أخبارثقافة عالمية
“الحدائق السرية” في مراكش .. عامرة بالخضرة وأسرار السلاطين
يزخر المغرب وخاصة مدينتَي مراكش وفاس، بالبيوت التراثية القديمة، على الطراز الأندلسي التقليدي، وتسمّى “الرياض”، وهناك فرق بين المدينتَين، لجهة الزخارف والنقوش والأحجام.
تقع هذه البيوت التراثية الجميلة في المدينة القديمة المُحاطة بسورٍ كبير، كان الغرض منه الحماية العسكرية، فضلاً عن وجود البوابات القديمة الضخمة، لتحديد حركة السكان والوافدين إليها، إذ كانت تعتبر نقاط تفتيش وسيطرة.
تُحيل “الرياض” وفيها حدائق ونوافير إلى الروضة، تيمّناً بالجنة، الشخص المسلم والعربي في علاقة روحية عاطفية مع الجنّة، التي يذكرها القرآن الكريم، كمآل للمسلم ثواباً على سلوكه وتقواه، وكمعادل موضوعي معنوياً “الجنّة تحت أقدام الأمهات”.
حدائق مراكش تيمّناً بالجنة
“الشرق” زارت الحدائق السرية في مراكش الحمراء، من باب” القصور”، عبر أزقّة المدينة القديمة وأسواقها التراثية، مثل سوق الصبّاغين، وساحة المواسين التراثية. يزور المنطقة السيّاح يومياً، من أجل التسوّق ومعاينة الأزقّة العتيقة والصناعات المراكشية التراثية، مثل الجلود والزرابي (السجاجيد)، والحلي التقليدية وسواها.
ثراء على النحو الصوفي
يعود إنشاء الحدائق السرية إلى زمن حكم السعديين في مراكش، وهي مكان تاريخي يعكس روعة العمارة المغربية، على مساحة أربعة آلاف متر، عامِرة بالخضرة والسواقي والنوافير، فضلاً عن أسرار السلاطين ولياليهم الشبيهة بمساحتها الخضراء.
تنقسم هذه الحدائق إلى قسمين:، الحديقة الاستوائية (العجائبية)، وفيها النباتات من جميع القارات أسوة بحديقة “ماجوريل” في مراكش. وحديقة “حسّان” في الرباط، والحدائق العجيبة في سلا؛ فضلاً عن حدائق أركيولوجية كمتاحف طبيعية. هناك معرض دائم تحتضنه الحدائق، للفنان العراقي المقيم في مراكش طه سبع.
ترميم تراثي وتأهيل عصري
قام الإيطالي لاورو ميلان وشريكه جيوفاني، بشراء الحدائق ثمّ ترميمها (فتحت عام 2016)، بطريقة حافظت على عمارتها وموادها التراثية، وذلك بإشراف لجنة تشكلّت من مهندسين معماريين وحرفيين، وعلماء آثار، وعمّال لديهم خبرة في صيانة المباني التراثية. و تمّ تجديد الأبنية والنظام الهيدروليكي القديم للقصر، كما أعيدت زراعة الحديقة.
الإيطالي لاورو، هو من أطلق عليها “الحدائق السرية “، ولم يكن أحداً تقريباً يعرف بوجود هذه الحديقة، لذلك سمّيت بالسرية. ينبغي الإشارة، إلى أن الرياضات كلها هي “سرية” تورية، وغير جاذِبة للانتباه، بسبب الواجهة المتقشفة جداً والباب الخارجي الصغير الواطئ غير المحسوس، بحيث لا يشير إطلاقاً إلى ثراء ورفاهية الداخل، وذلك محاكاة للزهد الإسلامي غير المتسامح مع إشهار الثروة، والتبجّح بالرفاهية علناً، أسوة بالروحية الصوفية.
يكتب أحمد السراج، في “العمارة الإسلامية خصائص وآثار”: “الزخارف الداخلية لها خصوصية فردية، أما الزخارف الخارجية فينبغي عدم المبالغة بها، وأن تكون في حدود ما يرضي الجماعة، لكي لا يكون مبهرجاً، وتطغى عليه صور وأشياء مما لا تختصّ به الشريعة الإسلامية”.
الحديقة الإسلامية: الماء يُحيينا
أما القسم الثاني فهو “الحديقة الإسلامية”، حيث نوافير المياه والقنوات والِبرك والنباتات ذوات الروائح العطرة، يقسمها ممرّ مائي إلى قسمين، ما يجعل المكان، صومعة تأمّل واسترخاء، في تطابق مع صورة الجِنان والروض. “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ” (سورة الأنبياء).
تقول الباحثة في موضوع “الأدب والمدينة” محاسن راسخ لـ”الشرق”، حول مركزية الماء في الحدائق الإسلامية:” يتّخذ حضور الماء في قلب الصرح نفسه قيمة رمزية، إن لم نقل قيمة شبه دينية. فالماء يمثّل دوراً فائقاً في الاقتصاد المادي والروحي للحياة الإسلامية.
هو قبل أي شيء، يُشبه الصورة المادية للروح في سيولته وطهارته. فنحن عندما نجلب الماء، نُحيي مربّعاً في الصحراء، وعندما نبني سوراً عالياً جداً في المدينة أو الحدائق، نتجنّب الفضول؛ يجري الماء الذي يتدفّق من المركز أو الذي نجلبه من البئر، نحو الاتجاهات الأربعة التي يُرمز إليها عادة بالممرات الأربعة، التي تحدّ المربعات الأربعة للأرض”.
جبال الأطلس والخطارات
تنتشر النوافير وسط الحدائق في المغرب، كما القنوات المائية بخطّين متوازيِين، بتشكيل هندسي محسوب لري النباتات وإدامة الأرض زراعياً.
تأتي المياه من جبال الأطلس المحيطة بمراكش، بواسطة نظام “الخطّارات” الشهير في المغرب، ووفقاً لآلية الجاذبية، المعتمدة على مدّ قنوات من العيون الجبلية مباشرة، ويتمّ تسريحها تدريجياً من الأعلى نحو الأسفل بطرق هندسية محسوبة جداً، تسمح بتمرير الماء من هناك إلى الحدائق.
راكمت مدينة مراكش خبرةً جيدة في تدبير المياه منذ نشوئها، نظراً لاعتمادها على مياه العيون والجبال والمياه الجوفية.
معجزة المياه في حدائق بابل
عانى المهندسون دائماً من عملية توصيل المياه، ثم التخلّص منها عبر الصرف الصحي، وكانت هذه العملية محفوفة دائماً بالصعوبات وبالأسرار المعمارية: احتارَ العلماء والمهندسون، بالطريقة التي تمّ سقي النباتات والمزروعات في حدائق بابل المعلّقة، من دون استعمال مضخة آنذاك.
هكذا، سمّيت من عجائب الدنيا السبع، وللإشارة، قامت الدولة العراقية في الثمانينات بتنظيم مسابقة دولية لفك اللغز ذاك، ولم ينجح أي مشروع على الإطلاق.
ثمّة رأي قدّمَ أخيراً يقول: “إنه تمّت زراعة نوع من النباتات في حدائق بابل، لها قابلية امتصاص الماء بكثافة، وتجميعه في أطراف أغصانها العلوية، فيؤخذ المياه منها إلى كل طابق وهكذا، لكن هذا الرأي لم يتم التحقّق منه، بسبب اندثار النباتات تلك.
القلعة والبرج وصورة السلطة
يقع البرج في أعلى المكان (كان مخصّصاً لمراقبة حركة النجوم وتحديد مواقيت الصلاة). بناءٌ مميز ومُحكم، اعتمد على طوب الجير وأعمدة خشبية مثبّتة داخل الجدران، لتدعيم الهيكل العام كما في الدرج وقوس الطابق الأرضي.
وجدت أبراج أخرى في المدينة العتيقة تشير إلى مدى نفوذ أصحابها الاجتماعي، لكنّها أقل ارتفاعاً مقارنة ببرج الحديقة السرية الذي يبلغ ارتفاعه 17 متراً، رمزاً للحكم والسؤدد، تعلوه قبّة مزيّنة بالقرميد يعود تاريخها إلى عام 1641م.
هناك غرفة سقفها مزيّن بالنقوش المحفورة على الخشب، يستقبل فيها السلطان ضيوفه، وهي عبارة عن خلوة ومكتبة أيضاً. اللافت هو بابها المنخفض، الذي لا يسمح بالدخول، فيضطر الشخص الذي يروم مقابلته إلى الانحناء، كناية على الخضوع والتبجيل، والفكرة ذاتها، نجدها في الباب الخارجي الصغير للرياضات الأخرى في مراكش؛ الانحناء ثم الدخول، وهذا الأمر كان شائعاً في العمارة الأندلسية، وخاصة في صومعة ملوكها وسلاطينها.
تقول السائحة الإيطالية كاميلا لـ”الشرق”: نستمتع بالمدينة القديمة التي تأخذنا ببنائها المعماري وأسواقها وبضاعتها التراثية وأزقتها، وتعطينا فكرة عن العمارة آنذاك، حيث الأزقة الضيّقة المصمّمة عسكرياً؛ إذ لا تسمح للعربات وقت الحروب بالمرور فيها، فقط الجند الخيّالة”.
أضافت: “يلفت نظري دائماً، الدقّة المعمارية في النقوش والواجهات، المُطعّمة بالخشب والجبس في الحدائق السرية، وهي أنموذجاً لعمارة مراكش، فضلاً عن الصفاء والهدوء والروائح الطيبة هنا”.
العمارة في التاريخ البشري
قال سارتر عندما وقف أمام الأهرامات: “آه، ما أفظع الظلم”، إذ إن القلاع والحصون والمعابد، تمّ تشييدها وفق نظام السخرة الشائع سابقاً، اعتماداً على الأسرى والعبيد والسجناء. فهل العمارة هي فن الظلم؟
المصدر : الشرق للاخبار