أخبارثقافة عالميةفنون عالميةفنون عربية
إبداعات “الأمازيغ”.. انفتاح على العربية والعالمية
تملك اللغة الأمازيغية أبجدية خاصة بها، يعرفها الأمازيغ من واحة سيوا في مصر، إلى جزر الكناري في إسبانيا؛ وهو المجال الجغرافي الذي يتواجد فيه الأمازيغ، وتسمّى “التيفيناغ”. عُرفت قبل الميلاد، وحُدّثت أكثر من مرّة في النصف الثاني من القرن العشرين، من قِبل أكاديميات بعضها موجود في أوروبا.
غير أن هذه الأبجدية تجد مزاحمة من الحَرفين اللاتيني والعربي، إذ تُكتب بهما نصوص أمازيغية كثيرة، بحجة شهرة الحرف اللاتيني عند أنصاره في الكتابة الأمازيغية، وبحجة العلاقة التاريخية بين اللغتين العربية والأمازيغية، عند أنصار استخدام الحرف العربي.
يظهر تباين الخطوط المستعملة في الكتب الأمازيغية، داخل أجنحة دور النشر في الجزائر، التي تعتمد النشر باللغات العربية والفرنسية والأمازيغية.
الأمازيغ أهل البلاد
حين دخل الفاتحون العرب مطلع القرن الميلادي الثامن إلى الجزائر، التي عُرفت بالمغرب الأوسط لاحقاً، بلغة الجغرافيا السياسية القديمة، كان الأمازيغ هم سكان البلاد الأصليين؛ ولطالما واجه ملوكهم الاحتلالات المتعاقبة ومنها الاحتلال الروماني، دفاعاً عن أرضهم وخصوصية ثقافتهم، التي يسبق التقويم فيها التقويم الميلادي بتسعة قرون.
غير أن الاستقبال الأمازيغي للثقافة العربية كان مختلفاً، بعد زمن قصير من المواجهة العسكرية، ذلك أنها ارتبطت في الأذهان والوجدان بالإسلام، الذي أصبح الدين الرسمي في البلاد.
ولم يكتف السكان باعتناق الإسلام فقط، بل عملوا على نقله إلى البقاع المجاورة، مثل الساحل الأفريقي، وشبه الجزيرة الأيبيرية، التي باتت تسمّى الأندلس.
من هنا، نشأت علاقة احتضان متبادل بين الثقافتين العربية والأمازيغية. ونجد تمظهرات كثيرة لذلك التبادل، منها انتقال عشرات المفردات العربية إلى القاموس الأمازيغي وبالعكس.
14 لهجة أمازيغية
ولأن اللغة العربية كانت وعاء القرآن وعلومه، فقد كانت وما تزال هي اللغة المهيمنة في الفضاء الجزائري، من غير أن يؤدي ذلك إلى محو اللغة الأمازيغية بلهجاتها الـ 14، في ظل تمسّك عدد كبير من السكان الأصليين بها.
حمل ذلك النخب الجزائرية الأمازيغية، على النضال من أجل الاعتراف بالهوية الأمازيغية، لغةً وثقافة، بعد الاستقلال الوطني سنة 1962، إذ لم يعترف الدستور إلا بالعربية لغة رسمية للبلاد.
خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أفضت النضالات السياسية والثقافية، إلى الاعتراف التدريجي بالثقافة الأمازيغية، بدءاً بدخولها إلى الإعلام الرسمي، مروراً بإنشاء “المحافظة السامية للأمازيغية” وهي هيئة تابعة لرئاسة الجمهورية، واعتماد تدريس الأمازيغية في الأماكن الناطقة بها، وصولاً إلى اعتبار الأمازيغية لغة وطنية، في آخر تعديل دستوري عام 2020.
لغة منافسة
يرى الباحث والأكاديمي الجزائري حاج ذواق أومحنّة في حديثه لـ “الشرق”، “أن استبعاد لغة قوم هو اعتداء على كينونتهم، بالنظر إلى ما تمثّله اللغة من حضور في حياة شعب من الشعوب، إذ تعرّضت اللغة والثقافة الأمازيغية، بعد الاستقلال الوطني، إلى تعسّفات كثيرة من بعض النخب السياسية والثقافية، الرافضين لوجود لغة أخرى إلى جانب العربية”.
يضيف: “هذا التطرّف الهادف إلى تذويب الأمازيغ في البعد العربي، أدى إلى انبثاق تيار أمازيغي متطرّف، يرى أن الثقافة واللغة العربيتين غريبتان عن الجزائر، وكلا الطرفين يلغيان قروناً من الحوار والجوار والتبادل، الذي أثمر هوية جزائرية مختلفة ومتكاملة”.
وذهب الأكاديمي الجزائري إلى أنه “بعد دسترة الأمازيغية ثقافةً ولغة، آن لأنصارهما من المثقفين أن يركزوا على الجوانب الإبداعية، لا تُخلّد اللغة مهما كانت بالنطق بها فقط، بل أيضاً بالإبداع بواسطتها، حتى تكون لغة منتجة. وآن للغة الأمازيغية أن تكرّس ما تملك من رواية وقصّة وشعر وتعابير فنية وجمالية، حتى تتكرّس كلغة بيان ولا تبقى مجرّد لغة لسان”.
يقول الباحث محند السعيد أولفقي، “إنه من غير المنطقي أن يتقبّل أنصار الثقافة العربية وجود أدب أمازيغي، لكنهم يشترطون أن يُكتب بالخط العربي، أو يناضل أنصار الثقافة الأمازيغية من أجل فرضها، ثم يكتبونها بالخط اللاتيني، في ظل وجود أبجدية خاصة بها”.
الأمازيغي يحب بعنف وينتهي حبه بعنف
ويرى الروائي جلال حيدر، أنه لا ينبغي التركيز على الشكليات في تقييمنا للأدب الأمازيغي، وهو يحاول أن يثبت نفسه؛ أعتقد أن روابة “نجمة” التي كتبها كاتب ياسين خلال خمسينيات القرن العشرين، هي أرقى ما وصل إليه الأدب الأمازيغي الحديث، ولا يمكن فصلها بسبب أنها كتبت بلغة أخرى، فهي تمثل دفء العائلة الأمازيغية، والمرأة في المخيال الشعبي الأمازيغي”.
يضيف: “إذا أخذنا الأدب من زاوية كونه مخيالاً، فإن كاتب ياسين من خلال رواية “نجمة” قال إن الأمازيغي يحب بعنف وينتهي حبه بعنف!
يقول: “هذا الحديث قياس على ما كتبه مولود معمري ومولود فرعون، في القرن العشرين، بل أعتبر أن ما كتبه لوكيوس أبوليوس الأمازيغي، في رواية “الحمار الذهبي”، خلال القرن الثاني للميلاد أدباً أمازيغياً، رغم اعتماده اللغة اللاتينية، لأنه انطلق في رسمه لشخوصه من المخيال الأمازيغي في صراعه الوجودي مع المخيال الروماني”.
ويختم صاحب رواية “المذياع العاق”: “طُرح عليّ هذا الهاجس كثيراً، أنا الأمازيغي الذي ينتج نصوصه بالعربية. وأعتقد أن الأمر نفسه حدث مع لوكيوس ومع كاتب ياسين و مولود فرعون و غيرهم، لكنني أحتفي بكل ما ينتج بالأمازيغية، لأنه يثري مكتبتها ويجعلها تعيش أطول، وتكون أكثر قابلية للتطوّر بوجود إنتاجات إبداعية أصلية”.
رهان الترجمة من الأمازيغية إلى العربية
شكلت ترجمة رواية “سلاسة ونوجة” إلى اللغة العربية عام 2012، على يد الأكاديمي فرحات بلّولي، ونشرت في طبعات مختلفة في الجزائر، ثم لاحقاً في القاهرة، فرصة للفت الانتباه إلى أن هناك أدباً جزائرياً أمازيغياً قادماً، وفق التقنيات المعاصرة للكتابة السردية.
يقول المترجم والأكاديمي قاسي سعدي: “بعد تلك الرواية كان على الذين ينكرون ملكة الإبداع في الأمازيغية، أن ينتبهوا إلى أنهم يستندون إلى التشكيك ولا يستندون على معطيات علمية وأدبية”.
أضاف: “لا أجد فرقاً بين نص مكتوب بالأمازيغية، يقول محدثنا المختص في الترجمة من وإلى الأمازيغية، ونصوص مكتوبة بلغات أخرى منها العربية، من حيث ثراء القاموس والأفكار والتجارب؛ خاصة النصوص التي يكتبها الجيل الجديد المتعلم والمطلع على آداب العالم”.
يتابع: “علينا أن نفتح أبواب الترجمة واسعاً بين اللغتين العربية والأمازيغية، حتى نقضي من جهة على الأحكام الجاهزة لدى القرّاء من الجهتين، ونثري الثقافتين المتجاورتين منذ قرون بأنساغ الإبداع عوضاً عن أنساغ الصراع”.
من جهته، يتحدث المترجم والإعلامي أحمد سليم آيت وعلي لـ “الشرق”، عن تجربته في ترجمة الشاعر والمغني الأمازيغي لونيس آيت منغلات إلى اللغة العربية، وترجمة شعراء عالميين مثل محمود درويش وبابلو نيرودا وسانغور إلى اللغة الأمازيغية.
يقول: “إن قرّاءً كثراً من اللغتين أدركوا قدرتهما الفائقة على استقبال الثراءات الجمالية، مَن كان يصدّق أن اللغة الأمازيغية التي كانت تصنّف ضمن اللغات الهامشية والشفوية، يمكن أن تستوعب دلالات ومجازات شاعر كوني مثل محمود درويش؟”
ويختم: “يبقى علينا الآن نحن المؤمنين بعبقرية اللغة الأمازيغية، أن نعمل على ترجمة الجدير مما يُكتب بها إلى اللغات الحيّة، خاصة اللغات المتوسطية، لإخراجها من ظلام العزلة إلى ضوء القراءة والمعرفة”.
التجذير
نقلنا هذا الهاجس إلى الأمين العام للمحافظة السامية للأمازيغية سي الهاشمي عصاد، فقال”إن المحافظة لا تفرّط في “التيفيناغ”، وتتعامل معه بصفته إرثاً وهوية، غير أننا نعتمد الآن الحرفَين العربي واللاتيني أيضاً، حتى نعطي فرصة للباحثين والأكاديميين الوقت الكافي للفصل في المسألة”.
ما يهمنا الآن، يواصل عصاد، “هو أن نوفّر شروط انتقال الثقافة الأمازيغية من الشفوية إلى الكتابة، فتصبح لغة منتجة أدبياً، مثل اللغات الأخرى، حينها قد نستقر نهائياً على أبجدية “التيفيناغ”، لتكون تتويجاً لمسار متكامل”.
الأمازيغية في الحواسيب
من الآليات التي أطلقتها المحافظة لتحقيق هذا الهدف، إطلاق جائزة رئيس الجمهورية للأدب والثقافة الأمازيغية، التي بلغت دورتها الرابعة، بشقّيها الأدبي المعرفي والتقني التكنواوجي. كما أدخلت الكتابة بالأمازيغية في الحواسيب.
رامبو الأدب الجزائري
حين شرع الكاتب الأمازيغي بلعيد آيت أعلي المولود عام 1906، في كتابة نصوص سردية ما بين القصة والرواية، مثل “ولي الجبل”، منتصف أربعينيات القرن العشرين، كان السرد الجزائري المتاح حينها، مكتوباً كله باللغة الفرنسية، بأقلام قليلة، مثل محمد بن شريف ومحمد ولد الشيخ والطاوس عمروش، ثم تكرّس في الخمسينيات على أيدي محمد ديب وكاتب ياسين وآسيا جبار، أما الرواية المكتوبة بالعربية، فلم تظهر إلا في سبعينيات القرن العشرين.
كتب الروائي أمين الزاوي في مقال له، أن بلعيد آيث أعلي هو عميد الرواية الجزائرية باللغة الأمازيغية. إنه رامبو الأدب الجزائري بالأمازيغية، مثقف التشرّد، بوهيمي بامتياز، كاتب الهامش.
تتأسّس رواية “ولي الجبل” برأي الزاوي “على ما يشبه بناء سردية “ألف ليلة وليلة”، أو تقنية “الدمية الروسية”، حيث الحكاية تخرج من حكاية أخرى لتوصلنا إلى أخرى، ويبدو الروائي مطلعاً على “ألف ليلة وليلة” التي اخترقت العالم الأمازيغي والأوروبي وغيرهما، فهو يجيء على ذكرها في نهاية النص، إذ يعترف بأنه حاول أن يحكي على هذه الطريقة.
كما أن رواية “ولي الجبل” هي أيضاً رواية فلسفية في شكل حكاية، تذكّرنا كثيراً بفلسفة “كليلة ودمنة”، وتذكرنا أيضاً برواية “الحمار الذهبي” لأبوليوس الأمازيغي، التي تعتبر أول رواية في تاريخ الأدب.
ظلت كتابات بلعيذ آيت أعلي تشكّل إرهاصاتٍ محرّضة على الكتابة السردية بالأمازيغية، إلى مطلع الألفية الثالثة، حيث ظهرت عدة تجارب جادة، لعل أبرزها تجربة الكاتب والباحث في الثقافة الأمازيغية إبراهيم تازاغارت، الذي نشر عام 2004 رواية “سالاس ونوجة”.
الحب بالأمازيغية
كتب إبراهيم تازاغارت روايته وفق معمار يُراعي الأصول المعاصرة للكتابة الروائية، فكانت قادرة على الذهاب إلى أية لغة حيّة من خلال الترجمة، بعيداً عن أي عقدة.
يقول تازاغارت لـ “الشرق”: انخرطت في النضال من أجل حق الثقافة الأمازيغية في التواجد، منذ شبابي، وأدركت أن أفضل ما يمكن أن أقدمه للأمازيغية بصفتها لغةً وثقافة، هو أن أكتب بها نصوصاً حداثية، بعيداً عن الروح الفلكلورية والشفوية التي ميّزت معظم ما كُتب بهذه اللغة. فكتبت رواية “سلاس ونوجة” مستفيداًمن قراءاتي للروايات العربية والغربية”.
يختم بالقول: “كان همي أن أكتب ملحمة سردية ترصد طبيعة الحب عند الإنسان الأمازيغي، لكن بنظرة معاصرة لا تجد حرجاً من الوقوف في وجه التقاليد، وتنتصر للحرية التي هي مقدّسة لدى الأمازيغي، فهو يُسمّى تاريخياً ب”الإنسان الحر”.
المصدر : الشرق