أخبارثقافة عالمية

برنار بيفو “دكتاتور الأدب” وصاحب أشهر برنامج ثقافي

برنار بيفو، الصحفي الأدبي، الذي جعل القراءة طقساً يومياً لدى ملايين الفرنسيين، ولدى قرّاء اللغة الفرنسية حول العالم، رحل في مايو الماضي، عن عمر ناهز التاسعة والثمانين.

صاحب أحد أبرز البرامج الثقافية في العالم “أبوستروف”، الذي حظي بمتابعة مليونين ونصف إلى خمسة ملايين مشاهد أسبوعياً، واستمرّ عرض برنامجه أكثر من 15 سنة (1975- 1990) على القناة الثانية الفرنسية.

اختيار هذا الاسم “Apostrophes “، هو أحد ميزات برنامجه، فهو يعني بالفرنسية، الحركة التي تُكتب عند التقاء حَرفَيْ علّة في أداة التعريف وبداية الكلمة، وتفيد ما يشبه في لغتنا العربية “التقاء الساكنَين”، بمعنى من المعاني.

كما أن الكلمة تعني توجيه كلام لشخص، بطريقة تجعله ينتبه ويستعدّ للردّ والصدّ. وهذا ما نلاحظه أثناء مشاهدة البرنامج (724 حلقة).

كان للإعلامي العريق أسلوبه الخاص في لفت انتباه الكُتّاب الذين يستدعيهم للحديث عن كتبهم. يقول في هذا الإطار: “استلهمت الفكرة من فرانسواز جيرو (وزيرة الدولة لشؤون المرأة آنذاك)، خلال برنامج مخصّص للنساء”.

يضيف:” في لحظة معينة، ردت عليّ أثناء الحوار قائلة: يا سيدي، لقد كلّمتني بحدّة (كلّمتني تعني هنا فعل أبوستروف) فقلت لنفسي، يا لها من كلمة رائعة: “أبوستروف” مصطلح يُستعمل في عالم الطباعة، ويفيد أيضاً نقاشاً فكرياً حادّاً، وهو جوهر ما أدعو إليه الكُتّاب الذين أستضيفهم”.

واعتبر أن “أبوستروف” ليس “مجلة أدبية بل مجلة للأفكار، لأنه يستمدّ جوهره من الكتب المنشورة. أرغب في أن يتمكّن المثقفون، والكُتاب، والأساتذة، والصحفيون، وجميع من ينقلون الكلمة في تبادل الأفكار، وأحياناً بشكل حاد”. (موقع المعهد الوطني السمعي البصري INA).

الاستفزاز خياراً

كي يصل بيفو إلى هذا المستوى غير المألوف حينها، كان عليه أن يكون واسع الثقافة، فالرجل له باع طويل في عالم الكتب، وهو بدأ حياته صحفياً يُعنى بشؤون الأدب والنشر، ثم رئيساً لقسم أقدم وأكبر يومية فرنسية “لو فيغارو” ( 1958- 1973)، وكاتباً في صحف “لوبوان” و”جورنال دو ديمانش”.

أعدّ في بداياته التلفزيونية برنامجاً أدبياً بعنوان “بين قوسين”، كما أسس مجلة لها ذات المنحى، وهي “لير” وتعني فعل القراءة.

كان بيفو منخرطاً بالكامل في مجال الأدب والقراءة، إلى حدّ أنه وصف نفسه بأنه “يمتهن القراءة”، وأصدر مؤلفاً بهذا الصدد، هو عبارة عن حوار مطوّل ومشوّق.

ساعات القراءة
كان معروفاً عن بيفو قدرته على الاطلاع على الكتب والقراءة بين 10و 14 ساعة يومياً. كان يقرأ الكتب كاملة، وليس بشكل عَرَضي، ويبدي حرصه على  التعرّف إلى “أسلوب الكاتب، لأنه أساسي”، ولأنه لا يعتبر القراءة عزوفاً أو خروجاً من العالم، بل “دخول إليه من أبواب عدّة”.

كان يرى جازماً بأن “الكلمات كائنات حيّة، موجودة تحت تصرفنا، يجب احترامها، الكلمات مثل الأصدقاء، مرهونة لخدمتنا”، كما جاء في مقابلة مع صحيفة “ويست فرانس”، التي خصّصت قاموساً أبجدياً للكاتب، هو الذي لم يكن كاتباً ولا ناقداً أدبياً، لكنه كان مؤثّراً في مسار النشر الأدبي ومسار بعض الكُتّاب.

هذا التأثير ذهب بالفيلسوف المعروف ريجيس دوبري، رفيق الثائر تشي غيفارا في أدغال أميركا اللاتينية، إلى انتقاد بيفو وحضوره الإعلامي القوي في ثمانينات القرن الماضي، واصفاً إياه بـ “دكتاتور أدب يمارس سلطة الفرد الواحد”، كما لو تعلّق الأمر بالسياسة.

تأسست سمعة بيفو إلى جانب اختيار الحدّة والاستفزاز الأدبي والفكري الراقيين، على فكرة جديدة، هي اختيار موضوع واحد أو ثيمة معينة، واستدعاء أربعة أو خمسة كتاب للحديث حولها، ثم تخصيص فقرة لإصدارات جديدة، مع محاورة أصحابها بالكثير من الحرية والصراحة في الطرح.

غلاف كتاب الإملاء الفرنسية -الشرق
غلاف كتاب الإملاء الفرنسية -الشرق

حلقات خالدة

يكفي ذكر الأسماء التي استضافها بيفو لندرك أهمية برنامجه، ألكسندر سولجنيتسين، الكاتب الروسي المنشقّ، والحاصل على جائزة نوبل للأداب وصاحب رائعة “أرخبيل الغولاغ”. كان أول كاتب أجنبي كبير يستدعيه بيفو. الأمر الذي أغضب سفارة الاتحاد السوفياتي آنذاك، وطالبوا بإلغاء الحلقة المخصصة له.

كما حلّ الروسي المتعدّد لغات الكتابة، الخصيب الإبداع، فلاديمير نابوكوف، ضيفاً على “أبوستروف”، الذي اشترط كتابة أجوبته قبل قراءتها، وتناول مشروب مخفي في إبريق شاي.

كما استضاف الشاعر والروائي الأميركي “الملعون” تشارلز بوكوفسكي، الذي لم يكن في حالة طبيعية طيلة الحوار، ولم يتورّع عن شتم بيفو نفسه. وهي الحلقة التي حازت على أكبر نسبة مشاهدة.

ومن الضيوف المعروفين أيضاً، المسرحي الأميركي نورمان ميلر، والروائية سوزان سونتاغ، والكاتب التشيكي ميلان كونديرا، والبلجيكي جورج سيمنون، صاحب روايات “المفتّش ميكري” الشهيرة، إلى جانب ويليام ستايرون، وكاتب رواية الجاسوسية الواسعة الانتشار، جون لو كاري.

استضاف أيضاً الروائي وعالم السيميولوجيا الإيطالي أمبرتو إيكو، والكاتبة الفرنسية المتفرّدة مارغريت دوراس، فضلاً عن كُتّاب فرنسا الحاصلين على جائزة نوبل للأدب، مثل جان لوكليزيو سنة (2008)، وباتريك موديانو (2014)، وآني إرنو سنة 2022.

كما مرّت في برنامجه شخصيات مثل الدالاي لاما، والسوسيولوجي المعروف بيير بورديو، والأنثروبولوجي كلود ليفي ستروس، والممثل مارسيلو ماستروياني، والسينمائيون رومان بولانسكي، وودي ألان، وجان لوك، ومطربين مشهورين مثل جورج براسانس، وسيرج غينسبور، ورينو.

وحلّ الملاكم محمد علي في “أبوستروف”، إذ قدّم سيرته الذاتية، وأجاب بصراحة قوية عن اختياره العنف اللفظي، بكونه يمثّل الزنوج حين يصرخ، تعبيراً عمّا يعانونه، مُجبراً أصحاب البشرة البيضاء على تحمّله رغماً عنهم.

كلها أسماء لامعة على المستوى العالمي، قدّمت في حلقات “أبوستروف” المتعة والإفادة، ولحظات أدب فريدة من نوعها، دخلت في التاريخ الأدبي لكل اسم، وصارت مرجعاً هاماً يضيء ناحية محدّدة من شخصياتهم، وأسرار إبداعاتهم.

للكتّاب العرب نصيبهم

نقصد بهم الذين يكتبون باللغة الفرنسية، المشهورين أصلاً، إذ مكّنهم البرنامج من الحصول على الانتشار المنشود، بل وتحقيق حلم العالمية، الذي هو حلم كل كاتب بالعربية.

استضاف البرنامج الكاتب اللبناني أمين معلوف، حين أصدر روايته “ليون الأفريقي”، وكتاب “وصف أفريقيا” في القرون الوسطى، الذي أجاب عن سبب اهتمامه بهذا الشخص العجيب، خريج جامعة القرويين بفاس، بأنه قرأ عنه على هامش صفحة في كتاب، ثم بحث وتخيّل مساره العجيب.

كما استضاف الشاعر والروائي المغربي محمد خير الدين، الذي خالط في ستينيات القرن الماضي في باريس، جماعة الوجوديين بقيادة الفيلسوف جان بول سارتر، وكتب روايته “أكادير” (1967)، المنخرطة في تيار الرواية الجديدة، المتسيّد مجال الأداب حينذاك.

وهناك الحلقة التي تحدث فيها بالفرنسية محمد شكري، الكاتب المغربي الشهير بروايته الجريئة، “الخبز الحافي” (المنشورة بنسختها العربية سنة 1982)، وتحدّث عن ممارسته الكتابة والإبداع، هو الذي عاش مشرّداً في طنجة خلال طفولته ومراهقته، وبقي أمّياً حتى العشرين.

“حساء الثقافة”

تجربة غنية وفريدة، جعلت برنارد بيفو يتبوّأ مكانة رفيعة، فكان أن ختم “أبوستروف” في حلقة أخيرة باستدعاء ثمانين كاتباً، من ضمن المئة والأربعين الذي مرّوا في برنامجه، وأصرّ على ألا تكون عاطفية، بل خصّصها لاستعادة اللحظات القوية، ومنها التي ذكرناها آنفاً.

بدا بيفو كما لو كان بصدد انطلاقة جديدة، فكان أن أنتج وأعدّ برنامجاً هو “حساء الثقافة”، خصّصه للأدب وللسينما والأجناس الإبداعية الأخرى. ثم خطرت له فكرة تنظيم مسابقة للإملاء في اللغة الفرنسية على كامل تراب فرنسا، تشمل كل من يتكلم لغتها.

كانت المسابقة تجربة غير مسبوقة، جعلت من درس مُملّ عادة، ميدان تنافس ممتع ومفيد، بل ومليء بالتشويق. وتوّج مساره بأن يترأس لجنة اختيار جائزة “غونكور”، أرفع جائزة أدبية في فرنسا، ما بين 2014 و 2019.

رحل برنار بيفو الذي شغِل الناس بهوايته اللامحدودة للقراءة، ولم يترك كتاباً في الأدب يخلّد اسمه، جلّ مؤلفاته تدور حول القراءة وسلطة الكلمة والقواميس الفردية الخاصة، وهواياته الشخصية.

لكن اسمه خلّده عبر حلقات برامجه المتعددة، وخصوصاً برنامج “أبوستروف”، المتاح على المستوى السمعي البصري، في وسائل التواصل الاجتماعي، ويتمّ تناقله وتحميله بين عشّاق الأدب، ولم يختفي وهجه على مرّ السنين.

بعد رحيله نعاه الكاتب الطاهر بنجلون في مجلة “لوبوان” (5 مايو 2024) قائلاً:

“شحذ بيفو رغبة القراءة لدى ملايين الفرنسيين وقرّاء الدول المتحدثة بالفرنسية. كان يعرف كيف يتحدث عن الكتب التي أحبها بشغف. كان رجلاً نبيلاً وفياً، فضولياً تجاه كل شيء، لذلك ترك وصية يدعو فيها الناس كي يهدوا بعضهم الكتب، قائلاً: تُفتح الكتب مثلما  تُفتح علبة شوكولا، وحين تُغلق، فكأنما يُغلق صندوق مجوهرات”.

المصدر : الشرق للاخبار

إغلاق