أخبارثقافة عالميةفنون عالمية

مقاهي الجزائر .. “اقرأ كتاباً والقهوة مجاناً”

بعد موجة العنف التي استهلكت تسعينيات القرن العشرين من حياة الجزائريين، أصبح من المألوف وجود مقهى ذي نزعة ثقافية وفنية، في مدن الجزائر.

رفّ للكتب الجديدة والمستعملة، حيث يتعانق فنجان القهوة مع رواية، ومنصّة لعازف أو حكواتي أو شاعر شعبي، وجلسات أدبية تجمع بين أجيال من الكتّاب وعاشقي الكلمة.

يُرجع الكاتب والباحث محمّد بن زيان، انتعاش هذه الظاهرة إلى عوامل عدّة، منها رغبة الجزائري في التحرّر من حالة الخوف التي ورثها من سنوات العنف والإرهاب، حين كان الجلوس في المقهى، سلوكاً قد يُؤدي به إلى الموت.

يعتقد بن زيان “أن الجزائريين أرادوا أن يزرعوا مظاهر الحياة، من خلال الفنون في المقاهي، وهي بدائل عن بيوتهم في أوقات معيّنة، انتقاماً من فترة كانوا محرومين من الجلوس فيها، من غير أن يتوقّعوا مداهمات من الجماعات المسلحة”.

خلايا تفكير

كان المقهى الواحد في النصف الأوّل من القرن العشرين، مثل مقهى “النجمة” في قسنطينة، ومقهى “المحطة” في وهران”، ومقهى “التلمساني”، و”مالاكوف”، و”طونطوفبل” في العاصمة، يشكّل من الوعي الوطني والفني، ما تعجز عنه اليوم وزارات بملياراتها، وإداراتها.

في المقاهي الشعبية، انبثقت الفرق الرياضية، والفنية، والمسرحية، بما شكّل حركة ثقافية ورياضية حرّة، كانت رافداً مهمّاً من روافد الحركة الوطنية، التي أفضت إلى ثورة التحرير خريف عام 1954، وهي أفضت بدورها إلى الاستقلال الوطني عام 1962.

مقهى مالاكوف العريق في الجزائر - lesmysteresdalger.com
مقهى مالاكوف العريق في الجزائر – lesmysteresdalger.com

يقول الشاعر هارون عمري، إنه لطالما آمن بالمقاهي، “بصفتها أهمّ الأبواب لدخول روح المدن، والتاريخ، والخيال الشعبي المتراكم، الممتد عبر الأزمنة”.

ينقلنا معه في زيارة إلى مقهى “مالاكوف” في حي القصبة العتيق، الذي فتح أبوابه لأصوات الأغنية الشعبية قبل قرن.

يقول: “منذ تشرّبت روحي أنساق الأغنية الشعبية باختلاف أنساقها، وأنا أحلم بزيارة هذا الفضاء الذي شاهدت وقرأت عنه الكثير، لأمنح ذاتي بعداً مثيولوجياً وشيئاً من التاريخ الثقافي المهم”.

يضيف: “تتزيّن جدران المقهى، بصور وبورتريهات لأشهر مطربي الموسيقى الشعبية في الجزائر، على غرار عمر العشاب، وعمر الزاهي، والهاشمي قروابي، والحاج امحمد العنقى، إذ أحسست بكوني حفيداً صغيراً لتاريخ فني كبير”.

بيت ثاني

يكاد المقهى أن يكون بيتاً ثانياً للجزائري، فهو يضبط فيه مواعيده، ويستقبل فيه ضيوفه و”شلته”، ويستقي فيه ومنه أخبار محيطه.

ومن المخلّ برجولة الرجل وكرمه، إذا لم يدع من يلقى من معارفه على قهوة في المقهى.

اقرأ كتاباً واشرب مجاناً

في ضاحية سيدي موسى بالجزائر، يقدّم مقهى ومطعم “تريو فود” نفسه بصفته نموذجاً متميّزاً لعناق التجارة بالفنون والجماليات، حيث أنشأ مكتبة بألف عنوان، مع إمكانية الحصول على وجبة مجانية، في حالة ما إذا قرأ كتاباً، وقدّم ملخّصاً عنه.

لم تكتفِ إدارة المطعم بالمكتبة، فخصّصت منصّة للموسيقى ومسرحاً للطفل، وانخرطت في جملة من التكريمات لمتميّزي المنطقة، مثل التلاميذ الأوائل في صفوفهم، والمعلمين المتقاعدين، وقدماء الرياضيين والفنانين ونشطاء البيئة.

مقهى تقليد وسط جزائري- thefork.com
مقهى تقليد وسط جزائري- thefork.com

ينفي صاحب المطعم المهندس محمد بودركة، أن يكون هذا التوجّه مفلساً من المنظور التجاري، “بتنا نحظى بزبائن كثر، بسبب نزعتنا الفنية والثقافية”.

الناشط القرائي أيوب روباش يقول: “نشهد ظاهرة القراءة الجماعية لدى الجيل الجديد، والكثير من النوادي القرائية المستقلة عن الهيئات الحكومية الجامدة، تأسّس في المقاهي، باعتبارها فضاءات شعبية لا تفرض قيوداً”.

جمهور جاهز

تعاني الفعاليات الثقافية التي تنظّمها الهيئات الحكومية، داخل القاعات المغلقة، على غرار دور الثقافة والمكتبات الرئيسية، عزوفاً لافتاً من قِبل الجمهور، ولا تحضرها إلا نخبة قليلة من المحسوبين على الفن، والأدب، وذلك على العكس تماماً من نشاطات المقاهي الثقافية، التي تجد جمهورها جاهزاً من شرائح مختلفة.

يسأل المسرحي وأحد مؤسسي المقهى الثقافي في مدينة عين الصفراء، على الحدود الجزائرية المغربية عبد القادر جنّاح: “هل يحقّ لنا أن نشتكي من عزوف الجمهور عن الأنشطة الثقافية، ونحن أسرى القاعات المغلقة التي باتت منفّرة للشباب، ولا نستغلّ الفضاءات المفتوحة التي تعطي انطباعاً بالحرية مثل المقاهي؟”

يرى الكاتب والناشر كمال قرور، الذي سبق له إطلاق تجربة شبيهة بالمقهى الثقافي، في مدينة “العلمة” شرقاً، سمّاها “منتدى المواطنة”، أن ظاهرة المقاهي الثقافية تنتعش في المناطق المعروفة تاريخياً بوعي المجتمع المدني.

وأعطى مثالاً على ذلك منطقة القبائل، إذ إن المقاهي هناك، تكاد تكون بديلاً شعبياً للهيئات الثقافية الحكومية.

نسعد بسرقة الكتب

صيف عام 2016، اجتمعت نخبة أدباء وفنانين، في مدينة “تقرت”، 620 كيلومتراً إلى الجنوب من الجزائر العاصمة، منهم الشاعر والأكاديمي محمد الأخضر سعداوي، وأطلقوا “مقهى البهجة الثقافي”.

كانت البداية مرتبكة، يقول سعداوي، “بحكم أن المقهى مرتبط في المخيال الشعبي العام بالثرثرة وقتل الوقت، لكن سرعان ما أصبح مشهد شاعر يقرأ، أو حكواتي يحكي، أو تشكيلي يرسم، أو موسيقي يعزف، أو كاتب يوقّع كتابه، مشهداً مألوفاً ثم بات مطلوباً”.

دفع التفاعل الإيجابي للمواطنين رفقاء سعداوي، إلى إطلاق مشروع “مكتبة في كل مقهى”، وانتشرت الظاهرة في ثلث مقاهي المدينة.

يقول محدّثنا: “قد يبدأ مواطن لا يملك علاقة بالمطالعة بقراءة فقرة من كتاب، ثم يصبح لاحقاً عاشقاً للقراءة، وقلنا لأصحاب المقاهي التي أنجزنا فيها مكتبات،  عليهم أن يتساهلوا مع إخراج الكتب من قِبل من يرغب في ذلك”.

يختم ممازحاً: “نكون سعداء إذا حدث أن سرق أحدهم كتاباً”.

المصدر : الشرق للاخبار

إغلاق