أخبارثقافة عالميةفنون عربية
“النزاع على جبل لبنان” في أفق ذاكرة ثقافية مشتركة
التاريخ هو سرد لوقائع وأحداث تعود للماضي. ذاك هو التعريف الجامع، وهو حين يتوسّل بالسرد، فليس من أجل متعة أدبية خالصة، ولكن بهدف إيجاد المنطق التسلسلي بين الأسباب والنتائج، وربط الأحداث الماضية فيما بينها.
منذ أن صار التاريخ عِلماً هدفه استخلاص حيثيات ما جرى، اعتمد مبادىْ علمية تتأسس على المصادر الموثوقة، من نصوص مكتوبة في شكلها الأصلي، أي الوثائق، ومن الاستماع إلى شهود عيان.
هذا التاريخ لا يكتبه إلا المؤرخون، أو هؤلاء المدفوعون بأهواء صناعة المحكي الوطني، أو المهتمون بإجراء مراجعة تاريخية لهدف سياسي أو أيديولوجي، وهذا لا يعني أن علم التاريخ جامد ونهائي، بل يعزّز طروحاته وتحاليله باستمرار، كلما اغتنى بمصادر موثوقة جديدة.
ومكرم رباح، أستاذ التاريخ في “الجامعة الأميركية في بيروت”، الحائز على شهادة دكتوراه من جامعة “جورج تاون”، هو مؤلف “النزاع على جبل لبنان، الذاكرة الجماعية وحرب الجبل”.
كتابه الرئيس هذا صدر في طبعته الثالثة عن “أمم للتوثيق والأبحاث” (517 صفحة)، تعريب د. رلی ذبیان عن الطبعة الإنجليزية، التي نُشرت تحت عنوان “الصراع على جبل لبنان، الدروز والموارنة والذاكرة الجماعية”، عن منشورات جامعة إدنبرج.
المقاربة التاريخية هنا، تخصّ الصراع التاريخي الممتد في الزمن ما بين الطائفتين، المؤسستين للبنان الحديث، بحسب الكاتب، وهما الدروز والموارنة في جبل لبنان، والعاكسة في جزء أساسي منها لـ”طبيعة لبنان التعددية”، التي أنتجت “الضغائن الطائفية المعقّدة في البلاد” (ص 195).
هو نزاع عرف فترات هدوء طويلة، قطعتها بشكل عنيف “أربع صدامات دموية مريرة خلال القرنين الماضيين”، كما جاء في مقدّمة الكتاب.
ومن أجل فهم طبيعة الصراع وأسبابه وتبعاته، ضمن ما سُمّي بـ”حرب الجبل” صيف 1982، خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1990)، يرى رباح “أن الفهم الصحيح لما جرى، يستوجب عدم الاكتفاء بالمصادر التاريخية المعهودة فقط”.
يضيف: “إن عملية تنظيم الأحداث عبر آلية “الاستذكار التاريخي”، يجب أن تراعي مصدرين آخرين، غير مطبوعين، ولا يقلان أهمية”، عرّف بهما نظرياً، انطلاقاً من بحوث ورؤى مؤرّخين عالميين معروفين، قبل أن يوظّفهما منهجياً في قراءته التاريخية لهذا الصراع.
يقول: “المصدران هما الذاكرة الجمعية والتاريخ الشفوي، وهما يقعان في صلب نقطة حيوية، تتقاطع فيها الأسباب التي حفّزت استقطاب القوى، ويسّرت النزاع، فعبّدت في نهاية المطاف الطريق أمام اندلاع الحرب”.
لكن الكاتب، وإدراكاً منه بوجوب عدم إغفال أي مفهوم آخر، لا يستثني دور الجماعة الحاسم في الحدث التاريخي. هنا تحضر المقابلات التي أجراها الكاتب مع الفاعلين المؤثّرين في الصراع الدرزي الماروني من كلا الجانبين. وهو ما ندر في معظم الأعمال التي تعالج الحرب الأهلية اللبنانية”.
مواجهة بسلاح الذاكرة
تسعف الذاكرة الجماعية الطائفتين، برؤيتين شُيّدتا على مرّ الزمن، تبرّران ما تعتبرانه ريادتهما على تاريخ وجغرافية الجبل، وبالتالي سعيهما، بفعل عوامل عدّة، للحفاظ عليها وإدامتها، حين يحدث الصدام بينهما.
يكتب رباح: “يرى الدروز أنفسهم كسلالة قبيلة مقاتلة، جاءت من الجزيرة العربية لتصدّ هجمات البيزنطيين ومؤازريهم المردة أو الجراجمة، ولاحقاً الصليبيين. أما الموارنة، فيعتقدون بأنهم من سلالة شعوب سامية، استقرّت على السواحل وفي الجبال اللبنانية كملاذ، هرباً من بطش الغزاة المسلمين، وهم أحفاد الفينيقيين، وحدها هزيمتهم في القرن السابع، اضطرتهم إلى التحالف مع الدروز” (صفحة 71).
تقابل هذه السرديتان ما يناقضهما تماماً، إذ يتم التشكيك بالوقائع من هذا الجانب أو ذاك. يكتفي الكاتب المؤرّخ بوضع محمول الذاكرة هذا، في قلب الصراع، ويفصّل الأمر من خلال فصول ثمانية وافية وواضحة.
يستعيد محطات تاريخية في سيرة الجبل اللبناني، مثل مجزرة 1860 التي “ارتكبها الدروز للحفاظ على وضعهم الاقطاعي”، وتاريخ تأسيس لبنان الكبير في ظل الوجود الفرنسي سنة 1920؛ وسنة الاستقلال عن فرنسا 1943؛ وسنة 1958 التي كانت على وشك أن تعرف حرباً أهلية أولى؛ وأخيراً سنة 1982، التي هي موضوع الكتاب/ الأطروحة؛ ثم عبر سرد ملابسات الاغتيالات الشهيرة الفاصلة، لكل من كمال جنبلاط لدى الدروز، وبشير جميل لدى الموارنة.
شروخ الذاكرة في حرب الجبل
هكذا يؤكد الكاتب أن حرب الجبل كحلقة احتراب (1982-1983)، جاءت مسنودة بكل هذا الزخم المتراكم، الذي كان يطفر لدى هذا المتّحد أو ذاك، كلما دعت الضرورة إلى شحذ الهمم.
ويذكر في الكتاب مقتطفات من خطابات زعماء دروز، خاصة المنتمين إلى الشق الجنبلاطي والحزب التقدمي الإشتراكي، وزعماء موارنة، وخصوصاً منهم المنضوين تحت لواء الكتائب والقوات اللبنانية.
كما أورد حضور هذه الذاكرة التي تفعل فعل الهوية المميزة، التي يجب الدفاع عنها بالغالي والنفيس، عند بعض قادة الصفوف الأولى في المعارك، الذين تحدث إليهم الكاتب.
بُعد إقليمي
والمثير هو أن معركة الجبل تمايزت بكونها ذات بعد إقليمي وعالمي، فنشوء دولة إسرائيل بقرار أممي، ونكبة الفلسطينيين، ووجود سوريا ذات الرباط التاريخي مع لبنان، واحتلال إسرائيل للجولان، كان له أبلغ الأثر على الطائفتين معاً، من خلال تحالفاتهما المتناقضة تماماً.
هذا في ظل عالم ثنائي القطب، ما بين الاتحاد السوفياتي من جهة، وأميركا والغرب وخصوصاً فرنسا، من جهة ثانية.
يورد الكتاب تحوّل هذه الحرب الجبلية إلى حصار دام شهوراً طويلة للقوات اللبنانية، برفقة مدنيين مسيحيين، أي موارنة، من قِبل دروز، تمّ إخراجهم بعد ذلك تحت حماية خارجية.
تم الإعلان عن الانتصار هنا والهزيمة هناك، لكنهما برأي الكاتب أنتجا “شعوراً باليتم لدى الجانبين مع رحيل أعدائهم الألدّاء عن الجبل، لأن القسم الأكبر من البناء التاريخي للهوية الجماعية [..] استلزم نقيضة تاريخية انتهت إلى توصيف كيفية نظر الجماعات كل إلى نفسها [..] إذ مع رحيل أو تضرّر واحد من هذين العنصرين، كان الآخر يواجه ربما خطر التلاشي”. (ص 419)
في ضرورة الذاكرة المشتركة
إنه قدر كل ذاكرة جماعية تُبنى على إقصاء الآخر، والاستثناء الذاتي. يأسف رباح على ذلك، خاصة وأنه بعد نهاية الحرب الأهلية عام 1990، وإرساء اتفاق الطائف، لم يتم استنطاق مسؤولية الذاكرة الجماعية، في أفق ذاكرة جامعة متوافق عليها، تحقّق التوازن عبر إدراج الحقائق وتصب في إطار العيش المشترك في “بيت بمنازل كثيرة”، بحسب عنوان كتاب المؤرخ كمال صليبي، فقبل ذلك هناك حاجة لتوحيد النظرة إلى الماضي كي تكون مشتركة.
المصدر : الشرق للاخبار