ادب الرواية
رواية المولودة.. سيرة المحبة والتعايش فى مصر الجميلة
الكتابة عن الماضى والبحث فى التاريخ عن حياة الشعوب ونفوس الشخوص التى عاصرت أحداثا مهمة فى تاريخ الوطن، أمر مرهق ومثير فى بنيته السردية والتاريخية، فكيف لا يقع الكاتب فى فخ التجميل، وكيف يخرج النص بالصورة التى تجعل من يقرأونه يشعرون بالصدق والشغف ويرون صورة أحداث لم يروها لكنهم الآن يستطيعون أن يرسموها فى خيالهم؟.
ربما كان ذلك التساؤل أهم ما راودنى عندما قرأت “المولودة” عن سيرة نائلة كامل، أو مارى إيلى رزنتال، التى قدمتها ابنتها نادية، والصادر حديثا عن دار الكرمة للنشر والتوزيع، فى 551 صفحة من القطع الكبير، ومنذ البداية انتقلت زمنيا وصرت أعيش فى تفاصيل القاهرة القديمة، وذهبت إلى شوارع بولاق والدقى الجميلة، وشعرت بصدق الراوية وكأننى طرفا فى الأحداث أتابع وأشاهد.
الكتاب الذى أرى أنه من أفضل ما قرأت خلال العام الحالى، ومن أروع السير الذاتية التى قرأتها خلال الفترة الأخيرة، هو حالة إنسانية ووجدانية، يحمل بين صفحاته مشاعر وعواطف مختلطة، يعيش فيها القارئ فى حالة روحية، تجعله يتعايش مع النص ويدخله فى عوالم مدينة جميل لم تعد كما كانت (قاهرة الأربعينيات)، ويرسم فى خياله رحلة ممتعة فى تلك الأيام من حقبة الحكم الملكى والاحتلال الإنجليزى، مرورا بثورة يوليو وحكم عبد الناصر، وصولا إلى حكم الرئيس السادات ومن بعده مبارك.
مارى إيلى روزنتال رسمت فى سيرتها “المولودة” حالة التعايش التى كان يعيش فيها الشعب المصرى، حتى منتصف أربعينيات القرن المنقضى، وجسدت خليط المجتمع المصرى حينها وكيف كان يضم العديد من الجنسيات الإيطالية واليونانية والتركية والأرمنية، وكيف كان أصحاب الديانات المختلفة يعيشون فى بيوت متجاورة، فى سلام اجتماعى تام، ولم يفرقهما إلا لعنات السياسية.
المعاناة والألم المستمر ربما يكون العنوان الدقيق عن رحلة “مارى”، وكيف ولدت فى عائلة من أصل يهودى لأم مسيحية إيطالية، ظلت العائلة مصرية تعيش فى أرض الخير كما وصفها الجد الأكبر الذى جاء إلى مصر هاربا من القتل على يد الأتراك، إلى أن بدأت حرب 1948 وبدأ معاها العداء لكل الأجانب واليهود المتواجدين فى مصر، وبدأ معها يلفظ المجتمع لغة التسامح بداخله وفقدان تعايشه وسلامه الداخلى، ليخرج الأبناء أيضا بسبب الاضطهاد.
حياة الإنسان مليئة بالتناقضات، والمشاعر المختلطة، ووتيرة الحياة متغيرة مع الوقت، ما يكسبها تناقضا حادا وغريبا، وذلك هو ما يظهر فى عائلة “مارى” التى سافر عدد كبير منها إلى إسرائيل أغلبه مضطرا بعد صعوبة الأوضاع فى مصر، وتعايشه هناك حتى إن أحد أبناء العائلة مات فى الحرب بصفوف الجيش الإسرائيلى، بينما بنتها الصغرى دينا تتزوج من نجل الزعيم الفلسطينى نبيل شعث، هكذا كان هذا التناقض البشرى الغريب فالجد الأكبر واحد بينما الأبناء يتقاتلون على قطعة من الأرض ربما هى نفسها تسع الجميع.
الحرب فرقت الأهل وليس الأوطان، وهزمت روح التعايش، بروح أكثر انهزامية، لكن الإنسانية تعلو ولا يعلو عليها، ومهما مر الزمن، يأخذنا الحنين إلى الماضى الجميل، وهكذا كانت الأمنية الأخيرة التى ختمت بها “مارى” مذكراتها، بأن تلتقى لمرة أخيرة قريبتها “سارينا” التى هاجرت على غير هدى إلى إسرائيل، بعيدا عن خلافات السياسة، الحب وحده كان هو الدافع لهذه الرغبة التى ربما لم تتحق ابدا.
هذا التناقض ظهر أيضا فى رحلة إيليا والد مارى، الرجل الذى ولد فى مصر، وأحبها وكانت هى الوطن وأرض الميلاد، ورسم فى مخيلته أنها أرض المنتهى، لكنه وهو فى منتصف رحلته وجد نفسه مضطرا للهرب من الاضطهاد والحياة البائسة التى عاشها فى حقبة الحكم الناصرى، ليكمل حياته الباقية فى إيطاليا ويموت هنا، أى مأساة تلك التى عانى منها الأجانب والمصريون الذين ولدوا لأصول غير عربية، سنوات ما بعض النكبة، وكيف لم تفرق السياسة بين المصريين الوطنين البسطاء وبين الصهاينة.
مصر كانت ملتقى للأديان وحضانة لمختلف الثقافات، لكنها لم تعد كما كانت، التعايش والتسامح فى المجتمع، كما تذكره “مارى”، يظهر فى تجربة عائلتها المسيحية وعائلة زوجها المسلمة، فرغم الاختلاف بينهم دينيا وعرقيا، إلا أن التسامح كان أكبر من ذلك الاختلاف الذى يصنعه الإنسان، ويبدو أكثر المواقف التى تمثل هذه الحالة من التسامح بين العائلتين، عندما كان أبوها “إيليا” يلعب الشطرنج مع حماها “كامل”، وكان الأول يشرب كأسا من الزبيب، وعندما ذكره الثانى أن اليوم هو مولد النبى، فابتسم وابتهج وقال فى حماس: “يبقى نشرب الكاس فى صحة النبى”.
هكذا كانت مصر رمز التسامح والتعايش، والذى فقدته وفقده الناس، واختفت روح المحروسة وثقافتها على يد المد الوهابى فى السبعينيات، وهو الحال الذى وصل له “تمثال المرأة العارية” التى كانت تحتفظ به عائلة سعد منذ القدم، لكنه بداية السبعينيات بدا يتوارى ويختفى وراء مقتنيات أخرى، كوجه القاهرة الجميل الذى أصبح أكثر قبحا من حينها.
الفنانون والمثقفون هم أكثر الناس تأثرا بالأحداث، وأكثر البشر إحساسا بقبح الماضى وغموض المستقبل، وفى كتاب “المولودة” كان الواقع الأكثر مرارة هو الذى حدث مع فنانى ومثقفى مصر من جيل الأربعينيات والخمسينيات، لك أن تعرف أن أغلب هؤلاء المثقفين كانت نهايتهم مريرة بعدما امتلكهم اليأئس وسيطر عليه الاكتئاب، وكأنها إشارة على فقدان مصر لتسامحها وروحها الجميلة.