أخبارثقافة عالمية
الدراجة الهولندية .. فرد من العائلة وارتباط بالسرعة والتقدم
لا يخلو أي بيت هولندي، أو بيت مهاجر في هولندا، من الدرّاجة الهوائية، وهي ثقافة هولندية بامتياز، مثل شرب القهوة، ونكهة الأجبان، وإضاءة الشموع، والتعامل مع الأزهار كهدايا ضرورية، فضلاً عن ثقافة الورق الهولندية.
بلد صغير كما يقول الهولنديون، احتلّ جزءاً من العالم على مدى 150 عاماً، عن طريق إمبراطورية “الرياح الموسمية”، سبيل هولندا إلى التوسّع بحرياً، فوصلت إلى سلطنة عُمان وحيفا في فلسطين.
وعلى الرغم من تقارب كلمات كثيرة ما بين اللغة الهولندية والإنجليزية والألمانية، مثل “محطة” و”شارع”، لكن اسم الدرّاجة في اللغة الهولندية هو خاص بها، وهو”فيتس” أو (fiets)، الكل ينطقه يومياً، وهو سهل حتى على الأجانب والغرباء.
رئيس الوزراء وحرب أكتوبر 1973
شوهد رئيس وزراء هولندا يوب دين ويل عام 1973، راكباً درّاجته الهوائية إلى عمله، في أثناء المقاطعة العربية لتصدير النفط، بسبب حرب أكتوبر حينذاك.
يمكن اعتبار المشهد بوصفه بدءاً لتاريخ الدرّاجة الهوائية، اهتماماً اقتصادياً وسياسياً (النفط)، إذ بدأت هولندا، بنشر ثقافة ركوب الدرّاجة اقتصاداً لالوقود، وتوفيراً لنفقات وسائط النقل العمومي، فضلاً عمّا توفّره من عوامل النشاط والصحّة.
ينصح الأطباء النفسيون في هولندا، باستخدام الدرّاجة لمعالجة الاضطرابات النفسية. وتُعدّ هولندا البلد الأوّل في العالم لجهة إجراءات التنظيم المروري للدرّاجات، وبناء الممرّات والجسور لها، وتنظيم إشارات ضوئية خاصة بها، حفاظاً على السلامة العامّة.
تجذب هذه الرياضة السيّاح إليها، فيأتون من أجل ركوب الدراجة في مدينة أمستردام، والتجوّل ما بين أزقّتها الضيقة وقناطرها التي لا تحصى. انتشرت هذه العادة في أنحاء العالم، ووصلت إلى الدنمارك، التي تتميّز بتنظيم جيد أيضاً، خلافاً لفرنسا أو ألمانيا وباقي دول الاتحاد الأوروبي.
العائلة الهولندية
يتعلّم الطفل الروسي منذ ولادته الرقص والتزحلق على الجليد، فهو نتاج البيئة الثلجية، بينما يتعلّم الطفل الهولندي السباحة درءاً للغرق المهدّد الدائم للدولة الهولندية. كما يتعلّم ركوب الدراجة، وهذه من ضرورات الحياة الهولندية اليومية.
تقول المواطنة الهولندية أنا ليز زي مان لـ”الشرق”: لكل فرد من العائلة دراجته الخاصّة به، وكذلك الأطفال، وأحياناً لدى كل شخص أكثر من واحدة. إذ يستخدم الهولندي دراجته منذ لحظة استيقاظه ذهاباً إلى العمل، إلى حين إيابه، وهي مثل أفراد العائلة عناية واهتماماً”.
آلاف الدرّاجات المسروقة
لا بدّ لكل بيت هولندي، من مكان مخصّص لركن الدرّاجات، يسمّى “سخوور”، وفي العمارات السكنية، هناك غرفة لكل شقة، ونادراً ما يركن الهولندي الدرّاجة الهوائية في الشارع، خوفاً من السرقة.
هناك إحصائيات تقول بسرقة 10 آلاف درّاجة هوائية في هولندا شهرياً، وخصوصاً في مدينة أمستردام، التي تنظم بلديتها ورشات مجانية في الأحياء السكنية، وذلك للنقش على بدن الدرّاجة، اسم شارع مالكها ورقم السكن و”البوست كود”، ليتمكن من العثور عليها بسهولة في حال سرقتها.
ولا تشفع أنواع الأقفال الغالية طبعاً من سرقتها، وأحياناً تكون أغلى من سعر الدرّاجة ذاتها، لدرء السرقة.
اقتصاد الدرّاجة
شكّلت الدرّاجات الهوائية اقتصاديات متنوّعة الدخل، مثل المعاطف والمظلات المطرية المتنوّعة، يستعملها راكبو الدراجات، فضلاً عن أغطية لحفظها من الأمطار، وكذلك اللوازم من مصابيح الضوء، والحقائب الخلفية والأمامية، لوضع الحاجيات والبضائع البيتية بعد التسوّق، فضلاً عن ورش التصليح كمهنة مربحة.
يفضّل بعص المهاجرين منذ دخولهم هولندا، الانخراط في ورشات التصليح، نظراً لمردوديتها الاقتصادية. يوجد غالباً أكثر من قفل للدرّاجة الهوائية، وتفرض بلدية أمستردام ركن الدرّاجة في المكان المخصّص لها، وفي حال مخالفة ذلك، تُفرض غرامة على السائق، وأحياناً تُصادر الدرّاجة، ثم يعاد بيعها في المزاد، بما يشكل اقتصاديات متنوّعة.
أكبر كاراج للدرّاجات في العالم
المشكلة التي تواجه هولندا، هي الكاراجات القليلة مقارنة بالعدد الهائل للدرّاجات. انتشرت العوامات والسفن القديمة في أمستردام باعتبارها كاراجات، ومع ذلك فهي ليست كافية، وعليه تركن إلى الجسور والجدران، ما يُعدّ تشويهاً بحسب رأي البلدية، التي قامت بإنشاء أكبر كاراج في العالم تحت المحطّة المركزية، مجهّزاً بالكاميرات ووسائل الحماية.
اسرق محفظة الهولندي ولا تسرق درّاجته
هناك درّاجات هوائية، أغلى من أسعار السيارات والمركبات. وهكذا، يفضّل الهولندي، أن تَسرق محفظة نقوده، ولا تسرق درّاجته، وذلك لارتباطه العاطفي بها.
يقول الأفغاني برويز صاحب ورشة تصليح: “نحن هنا ليس لإصلاح الدرّاجات فقط، بل نقوم أيضاً بتدوير المعطوب والتالف، ننقل من هنا ونضيف إلى هناك، كما لو أننا نصنع درّاجة جديدة”.
يضيف: “يتعلّم الجميع في هولندا تصليح الدرّاجات، ولديه عدّة كاملة لذلك، لكن أحياناً يتعذّر عليه الأمر”. ويؤكد أنها “مهنة مربحة والجميع يحتاج إليها”.
ويقول: “لدى الهولندي سجل عاطفي مع درّاجته، فهو لا يرميها، وإن اشترى واحدة جديدة”.
الدراجة مقارنة باستعمال الحافلة أو الترام
تشير استطلاعات الرأي، إلى أن الوصول إلى الموعد أو إلى الوظيفة، يكون سهلاً بواسطة الدرّاجة، مقارنة بالحافلة أو الترام، وذلك استعمالاً للطرق الفرعية غير المزدحمة، والاعتماد على الجهد الشخصي فحسب.
ويذهب الاستطلاع إلى سهولة هذه العملية، إذ يمكنك أن تستعملها متى شئت، بضربة قفل، فضلاً عن تجنّب عطلات المواصلات والاضرابات، كما يفضّلها المواطن على وسائل النقل الأخرى، لا سيما أن لا مشكله لديه في استعمالها لمدة 3 ساعات أو اكثر ذهاباً وإياباً، توفيراً للمال، وخدمة للصحة النفسية، والانشراح والبهجة، أسوة بالمشي.
الدرّاجة في الشعر الهولندي
لا يتخلّى الشعر الهولندي عن طقوس ومراسيم الحياة، فترد الشموع والأزهار والقناطر كثيراً لديه، ومنها أيضاً الدرّاجة الهوائية. ثمّة ديوان شعري طريف للشاعر العراقي الهولندي” المرأة، الدرّاجة، والحب”.
يقول الخالدي عن الشعر الهولندي الذي يكتب بلغته “الشعر الهولندي، ميت، لا تقرؤه سوى العجائز، أما فيما يخصّ شعري؛ إذا ضحك المرء عند قراءته، أجد ذلك ممتعاً، بينما لا أشعر بالسعادة إذا سمعت رأياً جيداً حول قصيدتي”.
درّاجات أغلى من السيارات
هناك أنواع كثيرة منها، درّاجة مستوية، يضطّر راكبها إلى الانبطاح لقيادتها وهي سريعة جداً مقارنة بالعادية، وحكراً على الرجال تقريباً لِما تتطلبه من جهد.
هناك درّاجة واحدة تتسع لسبعة أشخاص، لكل واحد مقوّد خاص به، لكن السيطرة والتحكّم في الأمام، تستعمل للنزهة الجماعية. توجد درّاجة قابلة للطي، يطويها صاحبها عند ركوبه القطار أو الحافلة، ثمّ يستعملها عند النزول.
كما تتوفّر درّاجة هوائية نصف آلية بمحرك كهربائي لذوي الاحتياجات الخاصّة، ودرّاجة السباقات التي تتطلّب خوذة إجبارية، وهي غالية جداً، فضلاً عن درّاجات الأطفال، ودرّاجات للعائلة مجتمعة تتوفر فيها وسائل الراحة وتُشبه السيارة.
ارتباط بالبلاد
لدى الأجنبي ربما ملاحظات كثيرة حول طرق الاندماج الحكومي والبرامج الدراسية، بل ربما حول الحياة هناك قاطبة. لكن، أكثر شيء يربطه بالبلد وبالمواطن من دون تحفّظ، هو الدرّاجة الهوائية..
تقول عائلة إبراهيم النجار لـ”الشرق”، “أوّل كلمة نتداولها ما بيننا كعائلة مهاجرة تعيش في هولندا هي” فيتس”، نلفظها يومياً باللغة الهولندية، ولا نستعمل الكلمة العربية “الدراجة الهوائية”، ولدينا منها أنواع كثيرة”.
فلسفة السرعة: الإنسان كائن السرعة
القفزة، الوثبة، الجري، من مفردات التقدّم، والسباق إلى الأمام، واختراع الآلات والمكائن جاء لزيادة السرعة، والخضوع إليها، منذ فلسفة أينشتاين وسرعة الضوء، مروراً بالقطارات والطائرات والهواتف والحواسيب، وصولاً إلى الدراجة الهوائية.
يقول نيتشه” تأتي الأفكار العظيمة مع المشي”، نحن هنا إزاء الأفكار المستلهمة من السرعة، مثل المنطاد، القطار، الطائرة والمشي والدراجة الهوائية.
لم تعد السرعة تُقرن بالخفّة الأدبية والسياسية، بل هي”علم السباق إلى الأمام”، أو “مجتمع السرعة”، بحسب فيلسوف السرعة الفرنسي بول فيريليو في كتابه “السرعة والسياسة”، محاولاً استثمار الفضاء العمومي والتكنولوجيات الحديثة، في ما يتعلّق بوسائط النقل والتواصل الأخرى، وأثرها سياسياً وثقافياً على المجتمعات الحديثة.
“السلطة هي الحركة”.. هكذا يسعى جهد الدولة الحديثة إلى إيجاد آليات للسيطرة على الفضاء، وحركة الجمهور، وتنقّل الأشخاص والبضائع والأفكار. وتحقيقاً لذلك، تُوضع الحواجز، بدءاً بإشارات المرور، وانتهاءً بالجمارك والرقابة”.
المصدر : الشرق للاخبار