ادب الروايةثقافة الغربثقافة عالميةمقالات
الأميركية ديليا أووِنس تكتب رواية العودة إلى الطبيعة.
“حيث يغنّي جراد البحر” باعت 5 ملايين نسخة وتتحول إلى فيلم
الروائية الأميركية ديليا أوونس (دار النشر)
للأدب قدرة على جعلنا نتنشّق روائح، نرى انعكاس نورٍ، نتحسٍّس حرارة التراب، وبالتالي على الاحتفاء بما يتجاوز ابتكارات البشر ونسمّيه التنوّع الحيوي. ولعل أفضل دليل على ذلك رواية “حيث يغنّي جراد البحر” للأميركية ديليا أووِنس، (2019)، التي تجاوزت مبيعاتها الخمسة ملايين نسخة في وطنها ويتم حالياً تصوير فيلم مقتبس منها. رواية صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار “سوي الباريسية، ولا يعود نجاحها إلى كون كاتبتها عالمة أحياء شهيرة سبق أن أثبتت في ثلاثة بحوث علمية عن مهارات سردية مذهلة وحساسية نادرة في وصف الطبيعة وسلوك الحيوانات فيها، بقدر ما يعود إلى تشكيلها بذاتها أجمل نشيد احتفاء بالطبيعة تُمكِن قراءته.
نبتة برّية
إطار الرواية الجغرافي هو الأهوار الساحلية لولاية كارولينا الشمالية التي تحلّق في سمائها النوارس والإوَز الثلجية، وينبت في أرضها الكرنب والجمّيز حول أشجار البلّوط والجوز، وتقطنها طيور المالك الحزين والسنقب. أما الأفراد القليلون الذين يعيشون فيها فيُطلِق عليهم أبناء مدينة باركلي كوف المجاورة والعنصرية اسم “جرذان الماء” ويتجنّبون الاحتكاك بهم لاعتبارهم متوحشّين بدائيين.
في قلب هذه الأهوار تعيش بطلة أووِنس، كييا كلارك، وهي فتاة نمت كنبتة برّية مقابل البحر وعرفت على مرّ السنين كيف تفلت من يد المرشدة الاجتماعية وعناصر الشرطة. فتاة عاشت منذ سن السادسة بوحدها في كوخ هجرته أمّها وأخوتها الأربعة وهي صغيرة، تاركين إياها مع والدها الكحولي والعنيف الذي لا يلبث أن يتوارى بدوره. فتاة ظنّ أبناء المدينة أنها “بلهاء” وسمّوها “فتاة الأهوار”، لكنها تعلّمت على نفسها كيف تبقى على قيد الحياة وكيف تدجّن بيئتها إلى حد الانصهار فيها وتحويلها إلى حليفةً لها.
هكذا تكبر كييا من دون رفيقٍ أو راعٍ غير الطبيعة والعزلة. ولذلك نراها سعيدة حين تأتي المرشدة الاجتماعية للمرة الأولى إلى كوخها من أجل مرافقتها إلى المدرسة وتسهيل معاملات تسجيلها فيها. لكن السخرية المؤلمة التي تتعرّض لها خلال ذلك اليوم على يد تلامذة صفّها، بسبب ثيابها الرثّة وقدميها الحافيتين، تجعلها تفرّ من هذا المكان وتمضي ما تبقّى من طفولتها في تجنّب الاتصال بأي كائنٍ بشري، باستثناء العجوز الأسوَد جامبينغ الذي سيوفّر لها ما تحتاجه من متجره مقابل ثمار صيدها البحري.
ويجب انتظار بلوغها سنّ الرابعة عشرة كي تلتقي بتايت، وهو مراهق رقيق ومثقَّف يكبرها بسنوات قليلة ويشاركها افتتانها بالأهوار، ولا يلبث أن يعلّمها القراءة والكتابة ويثير اهتمامها بعلوم الطبيعة والشعر، ما يغيّر حياتها بشكلٍ جذري. وفعلاً، بعد هواية تجميع رِيَش الطيور النادرة والصَدَف منذ نعومة أظافرها، ستنكب كييا، إثر هذا اللقاء، على تدوين ورسم كل ما ستكتشفه داخل الأهوار. لكن حين يغادرها تايت بدوره لمتابعة تعليمه، تؤلمها عزلتها إلى حدٍّ يجعلها لا ترتاب من الشاب الجميل تشايز الذي ستلتقي به صدفةً ويعدها بحياةٍ أخرى فقط للتغرير بها. وحين يُعثَر عليه بعد سنوات جثةً هامدة قرب كوخها، تُوَجّه أصابع الاتهام إليها فتعتقلها الشرطة وتخضع لمحاكمة جائرة يسعى محاميها عبثاً خلالها إثبات براءتها وتبديد أحكام هئية المحلّفين المسبقة عليها…
طبيعة وتشويق بوليسي
وتجدر الإشارة هنا إلى أن ثمة سرديتين داخل الرواية تسيران على خطّين متقاطعين: سردية ترعرُع كييا داخل الأهوار، وسردية التحقيق البوليسي المشوِّق في الجريمة. في الأولى، يمارس وصف أووِنس الدقيق والأخّاذ لحياة الأهوار السرّية تأثيراً مغناطيسياً على نفوسنا، تعزّزه قصائد جميلة كثيرة نصغي إليها على لسان كييا ويتبيّن في النهاية أنها من تأليفها: “ليست السماء سوى تنهُّدٍ/ حين ينحسر الزمن/ على الرمل المتحرِّك”. سردية مسارّية ذات جمالٍ أسوَد تغوص بنا في قلب المنطقة المذكورة وتجعلنا نتعرّف عن قرب إلى نباتاتها وحيواناتها ونُفتَن بالحياة البرّية فيها. ولا شكّ في أن هذا الافتتان يعود إلى استثمار الكاتبة بمهارة معرفتها العميقة في علم الأحياء، وأيضاً إلى شحذها لغةً شعرية تضارع في جمالها ريش الطائر الحزين الأزرق الذي يحرس كوخ بطلتها نهاراُ وليلاً ويلطّف عزلتها.
وبموازاة هذه السردية، نتلقى سردية التحقيق في جريمة قتل الشاب تشايز الذي يمسك بأنفاسنا ويسمح للكاتبة بإظهار كيف يمكن لأحكامنا المسبقة على طائفة من الناس أن تشوّه نظرتنا إليهم وتؤثّر بالتالي سلباً على تواصلنا بهم، وكيف يمكن أن تأخذ أي شهادة تفسيراً مختلفاً وفقاً لذهنية المدلي بها. وفي هذا السياق، تصوّر العنصرية بكل جورها وعنفها، عنصرية تجاه ذوي البشرة السمراء، كمعظم الذين يقطنون منطقة الأهوار، وعنصرية تجاه الآخر بكل بساطة، فقط لأنه يعيش بطريقة مختلفة عنّا، مثل كييا.
وهذا ما يقودنا إلى مكمن قوة هذه الرواية الأول، ونقصد شخصيتها الرئيسية كييا التي تجسّدها أووِنس بطريقة تجعلنا نتعلّق بها ونرتجف ونتألم ونأمل معها؛ كييا التي ستكبر وتتجاوز عزلتها بمحاورتها الطيور وتجميعها الريش النادرة ورسمها، وتأمّلها الصدف والأعشاب وكل ما ينبت حولها. وإلى هذه الفتاة، يمكننا إضافة منطقة الأهوار بذاتها التي تحضر، بفضل وصف الكاتبة الحيّ والآسِر لها، كشخصية في حدّ ذاتها. منطقة شديدة الثراء على المستوى الطبيعي، لكن كان يمكن لرواية أووِنس أن تسوخ في وحلها وتراوح مكانها بسبب ضيق مساحتها وانغلاقها نسبياً على ذاتها وبؤس الكائنات اليائسة التي تعيش فيها، لولا لغتها السيّالة والملتهبة التي تُقرَأ بلا جهد وبمتعة نادرة.
وثمة مجازفة أخرى في هذه الرواية، ونقصد معالجة موضوع الإنسان الذي يكبر وينضج وحده في أرجاء الطبيعة، الذي قاربه كتّاب كثر في الماضي، منذ دانييل ديفو، لا بل منذ ابن طفيل. لكن هذا النص لا يقع إطلاقاً في فخّ التكرار، بل يتّخذ تحت أنظارنا شكل سفرٍ فريد من نوعه داخل منطقة برّية فاتنة، بفضل كاتبة ــ عالمة أحياء قادرة على اقتيادنا إلى الأمكنة الأكثر سرّيةً وسحراً، وعلى منحنا فرصة الإصغاء إلى غناء جراد البحر.
(اندبندنت عربية)