آدابسلايد 1

“الكاتبات والوحدة”.. تجربة جديدة لقراءة الذات من حياة الآخرين

منذ الوهلة الأولى التي تقرأ فيها كتاب “الكاتبات والوحدة”، ستعلم أنه ليس مجرد كتاب بل إنه بمثابة الصندوق الأسود لكل كاتبة من 10 كاتبات تتحدث عنهن نورا ناجى، الذى يكشف لنا الأسرار المخبئة والتفاصيل التي لم يعرفها الآخرين، وكذلك يتمكن هذا الصندوق الأسود من ترجمة المشاعر وأعمق المخاوف الداخلية للكاتبات.
تشعر وأنت تقرأه أنه يروى جزءا عنك من خلال حياة أشخاص آخرين، تندمج مع ذات عنايات الزيات وتريد أن تنقذها وكأنك تنقذ ذاتك، ترى صورتها الأبيض وأسود مستبدلة بملامحك أنت، ثم تغرق في الحب مع مى زيادة وتحلم وتترك الرومانسية تطغى على كل كيانك لتفيق على جملة “الحب الحقيقي ربما يكون كذبة في حياة الكاتبات، لا حقيقة سوى وحدتهن”.
ومن طفولة الكاتبة مى زيادة التي استمرت معها متمثلة في براءة وتدفق مشاعرها التي لم تتوقف أو تقل يوما، إلى أمومة إيلينا فيرانتى التي أصبحت ذنب لم تتخلص منه إلا بإخفاء هويتها والتحدث عن حقيقة إحساسها تجاه أطفالها.
ورغم غرابة فكرة سوزان سونتاج حول مقاومة النوم وتمرين الذات على التحرر من متطلباته، إلا أنك تدرك من خلالها أن أفكارك الغريبة ربما سبقك لها أشخاص آخرين، قد يكون الفرق إن الكاتبة هنا استطاعت التنفيذ حتى منعها السرطان ونهش من جسدها ليمنعها من التحرر من عبء وعاءها، إنما أنت لم تتحرر منه أبدا.

الوجه الآخر من رونق الأشياء

بدأت الكاتبة نورا ناجى بالحديث عن نفسها وجعلتنا نغوص في مخاوفها التي أثارها اكتئاب ما بعد الولادة وضاعفتها الغربة، جعلتنا نرى الأمومة من منظور آخر لا ينعم بالونس والدعم، وصورت لنا السفر لدولة أخرى على أنه منفى.
لم تكن هذه النظرة تشاؤمية بل كانت الوجه الآخر من كل شيء نراه نعمة، ولا نواجه ما يجب أنت نتكبده في المقابل.. محظوظ من يحصل على النعمة ويجد من يتكلف عنه متاعبها، فتكون على هيئة هدية مغلفة ليس عليه غير إزالة الغطاء ثم الاستمتاع بها، ولكن بائس حقا من يجد نفسه وسط العديد من الصعاب وكأنه في متاهة ستجعله يصل في النهاية إلى المكافأة، فلا يتمكن من رؤية المكافأة بين كل ما يمر به، لا يستطيع مواجهة الصعاب الخارجية حتى يتمكن من التعامل مع الوحش الذى ينهش في روحه داخليا.. هذا الوحش كما صورته نورا ناجى كان شعورها بـ “الوحدة”.
ومن أوجاعها تمكنت أن تنتقل إلى أوجاع غيرها من الكاتبات، فمهما اختلفت قصصهن إلا أن شيء واحد كان يجمعهن وهو الشعور بالوحدة، والأداة التي استخدموها في محاولة للتصدى لأوجاعهم، وهى الكتابة.

قراءة ذاتية داخل وحدة الكاتبات

كانت الكاتبة عنايات الزيات أول من تحدثت عنهن نورا ناحى، والتي تفاعلت معها شخصيا ولم أجد أمر أكثر قسوة في الحياة من هذه الجملة التي ذكرت بعد وفاتها بفترة، “لم يكن انتحارها يهم أحدا وقتها ولم يسأل أحد عن الأسباب”، هل لم يشعر العالم بعنايات لهذا الحد حتى عندما تركته بهذه الطريقة المريعة؟

 حزنت على عنيات كثيرا وتفاجأت عندما قرأت كلمات كتبتها عنايات تقول فيها: “لو استطيع أن ألغى ذاتى وأولد في مكان آخر وزمان آخر؟ زمان آخر.. زمان آخر.. ربما ولدت في الزمان الخطأ”. شعرت كأننى قرأت هذه الأفكار من قبل، وفى لحظة فتحت مذاكراتى لأجدنى منذ أيام قليلة فقط كتبت هذه السطور، ” أريد أن أقو على البقاء على قيد هذه الحياة التي أشعر دائما بداخلها أننى غريبة أن شيء بى لا يلائمها، فاخترع عالما موازيا وأعيش فيه”.
توقفت لأفكر في حالنا معا، نشعر أن الحياة لا تناسبنا وبالتأكيد هناك حياة أخرى غير المكان والزمان الذى نعيشه.
الحقيقة أن نورا ناجى في اختيارها لكل قصة اختارت جانب من كل كاتبة وركزت عليه، ولو نظرت في النهاية ستجد أن كل هذه الجوانب ما هي إلا مجموعة مشاعر مجتمعة في حياة كل كاتبة، لذلك رأت نفسها في كل هذه الشخصيات ورأيت نفسى معها.
أما الأمر الوحيد الذى اختلف مع الكاتبة فيه هو أن فاليرى سولاناس لم تخذلها الكتابة، فكتابها “بيان الحثالة” جعلها مصدر احتفاء الحركات النسوية مع بداية نشره في حين لم تكون وقتها سوى مجنونة تم إيدعها في مصحة نفسية وقاتلة في نظر المجتمع، هي من هددت الجمعيات النسوية عندما حاولوا تقديم الدعم وعادت المجتمع وكرهته، وكانت الكتابة دائما ما تبنى لها جسر جديد للتعامل، ولكنها لم تكن تريد جسرا من خلال كتاباتها بل أرادت أن تكتب فقط حتى ماتت وهى تكتب، ولم تحصل على حقها في لقب كاتبة رغم ذلك.
وفى النهاية اعترف أننى ربما وجدت تفسيرا لوحدتى في كلمات نورا ناجى عندما قالت “المخ الذى يعمل بشكل دائم، الذى يلاحظ كل حركة، يستبصر المشاعر للأشخاص من حوله، يمكن أن يتسبب في خلق هذه الحالة من العزلة”.
ولعل أكثر ما أخافنى هو عشق “أروى صالح” للحياة وانتحارها رغم ذلك، لأنها لم تعد قادرة على العيش فيها.. فمع كل قصة كنت أقرأ أن نهايتها انتحار الكاتبة، كنت أشعر أن هذا الجانب من وحدتهم بعيد عن شكل وحدتى، ولكن مع طبيعة روح أروى صالح الثائرة المحبة للحياة ووصف نورا ناجى للحظية الانتحار، وجدت مخاوف جديدة بجانب مخاوفى بين صفحات الكتاب.
من هنا لا استطيع أن أحدد ما سينتهى به حالك بعد قراءة الكتاب، هل سيكون نوعا من السكينة تجلبها حقيقة أن مشاعرك بالوحدة وأشد مخاوفك قد اختبرها غيرك، وحاولوا التعامل معها من قبل، أم ستختبر مخاوف جديدة من نهايات الكثيرات منهن.
وأخيرا، لم يسعنى سوى أن أقول “شكرا نورا ناجى على التجربة التي منحتيها لنا من خلال كتابتك السلسة وتفاصيل الشخصيات والتعبير عن المشاعر التي كانت من الصعب قراءتها على ورق من قبل”.
المصدر: اليوم السابع

اترك تعليقاً

إغلاق