أخبارفنفنون عالمية
كريستوفر نولان.. فن التلاعب بالزمن
البعض يحصل على الأوسكار قبل الأوان، والبعض يحصلون عليه بعد فوات الأوان، والقليلون يحصلون عليه في الموعد المناسب.. ولكن ماذا عن كريستوفر نولان؟
على مدار أكثر من ربع قرن، منذ فيلمه الطويل الأول Following (1988)، حقق المخرج والمؤلف البريطاني الأمريكي دستة من الأفلام المتميزة، كلها حققت كلا من النجاح التجاري والنقدي، بدرجات متفاوتة بالقطع، ولكن كل منها يعد إضافة قيمة لمسيرة صاحبها ولفن السينما في القرن الواحد والعشرين.
مع ذلك، فإن نولان، حتى ليلة أمس، لم يكن قد حظي بجائزة أوسكار واحدة عن أيا من أفلامه، سواء كمخرج أو كاتب سيناريو، في ظاهرة عجيبة من عجائب الأوسكار الكثيرة.
حين نستدعي أهم الأفلام التي ظهرت في بداية الألفية الثالثة، وعبرت عن عصر الثورة الرقمية والاكتشافات العلمية المذهلة في مجال الفيزياء والرياضيات والهندسة الوراثية وعلم المخ والأعصاب، عصر السرعة التي تلتهم كل شئ، بما في ذلك الماضي والحاضر، والصور المتلاحقة بجنون على الذاكرة الهشة للجنس البشري، فإن ذلك يعني أن نستدعي أفلام كريستوفر نولان: بداية من رائعته الفريدة Memento، حيث ابتكر سرداً غير مسبوقاً يسير من خلاله الزمن الروائي بالمقلوب، وصولاً إلى رائعته الأحدث Oppenheimer، الذي يضغط فيه الأزمنة ويدمجها معاً، ويمزقها قطعاً متفرقة، لاعباً بعقولنا عبر صورة وصوت وسرد شديد الذاتية لسيرة شديدة العمومية، لواحد من أشهر وأخطر علماء القرن العشرين، مبتكر القنبلة الذرية التي صارت أداة فتاكة للقتل، بقدر ما فتحت الطريق أمام آلاف الاختراعات والاكتشافات الفيزيائية والرياضية الأخرى.
الانشغال بالعقل البشري
مشغول كريستوفر نولان بالزمن، يهوى التلاعب به، كأنما ينتقم من تلاعب الزمن بالبشر، كما نجد في كل أعماله وخاصة Inception و Interstellar وTenet.. وانشغاله هذا بالزمن لا يتجلى فحسب في موضوعات الأفلام، ولكن في أسلوبها السينمائي وتقنياتها الفنية، ولعله أكثر سينمائي اهتم بعنصر المونتاج منذ سيرجي إيزنشتين، رائد السينما الأول، ومكتشف ما يطلق عليه المونتاج الإبداعي أو الخلاق.
ومشغول نولان بالعقل البشري، باعتباره النقطة المركزية للوجود، أو كما يقول أصحاب الفلسفة الوجودية: لا وجود للعالم خارج الذات، أو بمعنى آخر لا يمكن إدراك وجود العالم إلا من خلال العقل والحواس، وبالتالي لا يمكن إدراك الواقع إلا من خلال مرشح الذات التي ترى وتستقبل هذا الواقع.
في كل من Dunkirk وOppenheimer، يعالج كريستوفر نولان أحداثاً وشخصيات تاريخية، ربما يرى البعض أنها حقائق مسلم بها، لا يصح التلاعب بها، ونولان يحافظ على الدقة التاريخية وفقاً للمصادر الموثوقة التي يعود إليها، ولكن ذلك لا يمنعه من تقديم هذا التاريخ وفقا لما يدور في خياله السينمائي شديد الحيوية والتوتر والذاتية.
عبر مسيرته المميزة نجح نولان أيضاً في تحقيق المعادلة الصعبة، شبه المستحيلة، التي لم ينجح في فك أسرارها سوى عدد قليل جداً من صناع السينما: وهي الجمع بين المستوى الفني الفكري الراقي مضموناً وشكلاً، وبين النجاح الجماهيري الذي يعتمد على تحقيق المتعة والترفيه والتثقيف معاً.
يعالج نولان أكثر الأفكار الفلسفية تجريداً وتعقيداً، ولكن من خلال قصص وحبكات وشخصيات وحوار وممثلين نجوم ودراما وحركة ومعارك ومشاعر تسلب ألباب وعيون وحواس مشاهديه وعشاق أفلامه، حتى بات لديه من المريدين والدراويش ما يماثل مريدي ودراويش كبار الصوفيين والموسيقيين ولاعبي الكرة العظام.
أخيراً وصلت جازة الأوسكار إلى كريستوفر نولان، ولو أنها تأخرت أكثر من ذلك لكان الأوسكار هو الخاسر، ولكانت جوائز الأكاديمية هي المتضرر الأكبر، لا كريستوفر نولان.
جائزة مستحق جاءت في وقتها المناسب، أو ربما تكون قد تأخرت قليلاً.
المصدر : الشرق