أخبارثقافة عالمية
فلسطين.. وصايا أخيرة في مواجهة الموت
الوصية هي آخر الكلام، تسبق النهايات، وتلاحق القدر المحتوم. هكذا نفهم الوصية في الحياة، لكنها في فلسطين تأخذ شكلاً آخر، يقع بين الحياة والموت، بين لحظات ينتظر فيها الشاعر أو الكاتب أو الفنان الفلسطيني، حتفه بوعي وعمق وتجرّد.
في هذا الكتاب “الوصايا.. شهادات مبدعين من غزة في مواجهة الموت (2024)”، الصادر عن (دار مرفأ) في بيروت، تجمع الشاعرة والمترجمة الفلسطينية ريم غنايم، 17 وصية لمبدعين من غزة، أمواتاً أو أحياء حتى لحظة صدور هذا الكتاب.
قدّم الكتاب الأديب الأرجنتيني الكندي ألبرتو مانغويل، والفيلسوفة والناقدة الأميركية جوديت بتلر.
“بيان ضدّ الموت”
يكتب مانغويل تحت عنوان “بيان ضدّ الموت”: “إن المأساة الكبرى التي يعيشها الشعب الفلسطيني، لا يمكن وصفها بالكلمات. وحدهم الضحايا يمتلكون القدرة على نقل الظروف التي يعيشونها إلى من يشهدون هذه المأساة. ولكن حتى في تلك الحالة، حتى بلسان المتألمين، تخفق اللغة. تخفق لأنها في جوهرها محاولتنا العقيمة لإضفاء معنى على العالم، لرؤية عالمنا المربك هذا من خلال المنطق. لكن في الكوارث، كتلك الحاصلة في غزة، تقع الأحداث المأسوية خارج أي سبب منطقيّ يمكن تصوره”.
ما هي الوصية الأخيرة؟
وفي مقدّمة ثانية، تسأل جوديث بتلر: “من تخاطب هذه الكتابات؟ هل من مستمِع، وما هي الوصية الأخيرة؟ إنها آخر ما تبقّى من رغبةٍ وأمل. ما هي الشهادة؟ إنها تمنحنا شذرات من حياة لا تزال على قيد الحياة، بينما تسبر غور مستقبل حياة لم تعد على قيد الحياة. تسأل الوصية عما تبقى من الرغبة في مواجهة هذه الوحشية، وهذا الدمار الشامل. حتى في الوقت الذي لا يبقى شيء يمكن تقديمه، تظل الوصية بمثابة فعل كتابة، وتنقل الكلمات التي تحمل آثار حياة زائلة وأخرى قادمة، كلمات تم جمعها قسراً لتشدّ للتضامن بين الأحياء والأموات”.
وثيقة أدبية تاريخية
وتكتب محرّرة الكتاب وصاحبة الفكرة ريم غنايم: “تُهندس هذه الوصايا والشهادات شعرية جديدة، وتقبضُ على المعنى مرّة وتفلته مرّات، وتمنح للمشهد الأدبي الفلسطيني عموماً، التفكير في العلاقة مع اللغة والكتابة بين الصمت والصوت، ومدلولات المعنى الكامن فيهما بما يتجاوزهما أيضاً”.
تضيف: “أردتُ من خلال الكتاب، أن أجمع، وسط النجيب والحداد والصراخ، أصوات أولئك القادرين على توثيق اللحظات الأخيرة، اللحظات التي قد تكون أخيرة في حياتهم، وقد تكون أخيرة في حياة ستصير سابقة، لأن المصير الفلسطيني لن يكون كما كان بعد هذا المشهد. هذا الكتاب هو وثيقة أدبية تاريخية يكتبها أبناء اللحظة، وهم أقدر على التعبير عن محمولات العنف الحاصل”.
هنا بعض الشهادات التي تضمّنها كتاب الوصايا:
يسري الغول: وصيّة رجل حالم
اعتقدت لوقت طويل، أني سأجلس على مقعدي الوثير، في ليلة ماطرة من مساء شتوي مثقل بالبرد، ينبعث صوت أم كلثوم، وأنا أكتب وصيتي الأخيرة لأبنائي وزوجتي ومن يهتم لأمري، وللقرّاء الذين يظنون أني شخص خارق.
كنت كذلك، أحلم أنني سأكتب الوصية بقلم أزرق جاف من نوع فاخر، أضع النظارة على أرنبة أنفي، أحك شعري المجعد، المليء بالشيب، بجواري حبوب الضغط والسكري، أسجّل انكساراتي وخيباتي وتعاليمي ومواعظي. ولا أعرف كم سيكون عمري حينذاك، ربما ثلاثة وسبعون عاماً أو أكثر قليلاً، لكن المصيبة أن هذا الأمر لن يحدث بعدما انتشرت رائحة الحرب في الأنحاء، دُمّر بيتي وقُتل جيراني، نزحنا من مكان إلى آخر، من مركز إيواء إلى بيت صديق حميم إلى الشارع، لذا بت أنتظر الصاروخ كي يقضي على ما تبقى منّي، فأنصرف عن الحياة بصخب كما فعلت الصواريخ اللعينة في قصصي ومدينتي.
إنّ ما جرى يفوق الخيال، ويتجاوز فكرة الانصراف إلى الكتابة في هذا الوقت العصيب.. أن نجمع الوصايا المتخمة بالموت في كتاب يوثّق اللحظة؛ كي نضع العالم أمام واجبه الأخلاقي تجاه الإنسان المهزوم في قطاع محاصر، يشبه المدن المتحضّرة، رغم لونه القاتم السواد، يسمى غزة.
سعيد عبد العزيز أبو غزة: على قبري
في اليوم الثالث والعشرين من الحرب المتوحّشة على المدنيين في غزة، أكتب وصيتي هذه. لم أنم هذه الليلة أبداً، صواريخ الطائرات الحربية تقصف في كل الأرجاء، المدفعية الحدودية تلقي قذائفها العمياء، الزوارق الحربية تطلق نيران الرشاشات الثقيلة من دون توقف، وأنا أختبئ مع عائلتي في زاوية مُظلمة هرباً من الموت الذي يزحف، ليحتلّ صدورنا الموجعة من هلع الحرب.
أوصي، أنا الروائي الفلسطيني سعيد عبد العزيز أبو غزة، أقطن مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، بأن تُطبع مخطوطات رواياتي ونصوصي الأدبية التي أصبحت في مكانٍ آمن في مدينة رام الله، وأن يرصد ريعها لتأسيس معهد أدبي لتعليم الفتية والصغار على الكتابة الأدبية. أوصي أن تُجمع دموع ابنتيّ: د. بيسان، د. بلسم، صبا، إذا لم تموتا في صدري، وبقيتا على قيد الحياة، في قنينة عطرٍ فارغة، وتدفن في قبري.
أوصي أن أُدفنَ في قبر أمي إن أمكن ذلك لأشعر بالأمان، فأنا أتوق إلى لحظة دفء آمنة في حضن أمي، أو أُدفن بجوار أي شهيدة هي أُم.
أوصي كلّ سيدات قلبي أن يلبسنَ الأثواب الملوّنة، ويضعن أحمر الشفاه، ويوزّعن الحلوى التي أُحب مع قُصاصات حُب على الفتية الصغار صدقةً عن روحي”.
مصعب أبو توهة: إن كنتُ سأموت
إن كنتُ سأموت
فليكن موتاً نظيفاً.
لا ركام فوق رفاتي
لا جروح في رأسي أو صدري،
لا دمار في مخدعي،
لا آنية ولا كؤوس متكسّرة.
أبقوا سُتراتي
وسراويلي
حديثة الكيّ
على حالها،
في الخزانة
فقد أرتدي بعضاً منها بعدَ أن تمرّ
جنازتي
لا تؤذوا أطفالي، فلا يزال
العديد من كتب الشّعر
لتُقرأ،
والقصائد الجديدة
لتُكتَب،
الكثير مما قد عشناه.
17 وصية
يضمّ الكتاب 17 وصية لمبدعين من غزة، أمواتاً وأحياء، هم: الروائي والقاص يسري الغول “وصية رجل حالم”، الشاعر والمترجم رفعت العرعير “إذا كان لا بد أن أموت”، الكاتبة هناء أحمد “أريد أن أنجو”، الكاتب سعيد عبد العزيز أبو غزة “على قبري”، الشاعر والكاتب سليم النفار “إعلان براءة”، الشاعرة والروائية أمل أبو عاصي اليازجي “لقد زال همكم إلى الأبد”، الممثل والمخرج علي أبو ياسين “دقائق الحرب الطوال”، المترجمة والكاتبة نجوى غانم “غرفة آمنة”، القاصّة ليان أسامة أبو القمصان “لا أمل لنا بالنجاة”، الشاعر حسين حرز الله “على قيد ما يشبه الحياة”، الكاتبة نعمة حسن “أنا نعمة حسن”، الشاعر والصحفي حسام معروف “منحاز لفكرة السد”، الشاعر والكاتب مصعب أبو توهة “إن كنت سأموت”، الطفلة ميار الجزار “اسمي ميار”، الكاتب والقاص سعيد محمد الكحلوت “بحثاً عن مأمن”، الشاعر والباحث يوسف القدرة “حياة كأنها الأبد”، الشاعر والروائي ناصر رباح “لم يعد الموت يهمنا”.
ريم غنايم
شاعرة ومترجمة وباحثة فلسطينية. حاصلة على لقب الدكتوراه من جامعة حيفا في مجال الأدب المسرحي. عملت محرّرة مشاركة في مواقع أدبية ثقافية فلسطينية، وتكتب في الملاحق الثقافية العربية.
صدرت باكورة أعمالها الشعرية باسم “ماغ: سيرة المنافي” (2011)، ومجموعتها الشعرية الثانية “نبوءات” (2014. صدرت لها “أشعار”، وهي ترجمة أشعار لجيمس جويس إلى العربية (2013). أشرفت على إعداد وتحرير كتاب “السؤالان: مقالات في الشعر والنثر” (2014).
كما صدرت لها ترجمة “الموت في أرض حرة” مختارات من الشعر الأفرو-أميركي، ورواية للأديب الأميركي تشارلز بوكوفسكي بعُنوان “مكتب البَريد” (2014)، صدرت لها ترجمة قصائد هايكو للكاتب الأميركي ريتشارد رايت بعنوان “هذا العالم الآخر” (2018)، وصدرت لها ترجمة رواية “الغداء العاري” للكاتب وليام س. بوروز (2019).
المصدر : الشرق