أخبارثقافة عالمية
“المحيبس”.. العراقيون لا يزالون يبحثون عن خاتم الخليفة
تَذكر الحكايات الشعبية في العراق، أن أصل لعبة “المحيبس” (تصغير لكلمة المحبس أو الخاتم)، بأن الخليفة العباسي، فقد خاتمه في أثناء جلسة مع ندمائه بعد صلاة التراويح في رمضان، وبقصد ممازحته، أخفى أحدهم الخاتم في يده، وشاركه ذلك بعض الحاضرين، فطلب الخليفة منهم معرفة مكان الخاتم. وهكذا انشغل الجميع بالبحث عن الخاتم.
اللسان حكاية بذاته
لا تُروى أي حكاية على علاتها من دون سند أو أساس ثقافي أو شعبي، فاللسان هو “مطبعة” بالمفهوم الحديث، أما النقل وتأليف الحكايات والقصّ، فهي من وظائفه الدرامية، ولطالما بدأ التاريخ من الحكاية، إذ يقال: التاريخ هو حكاية أصلاً. وما بين المكتوب والشفاهي، يجعلُ اللسان مكانة له في التاريخ.
“المحيبس”: لعبة بغدادية يزاولها الرجال حصرياً
هي لعبة تراثية عراقية يزاولها الرجال في العراق دون النساء، مع بداية شهر رمضان، ولا يلعبونها في أشهر السنة الأخرى.
يقول المؤرّخ الشعبي طه الهاشمي: “الناس تناقلوا اللعبة أباً عن جد، من دون معرفة بداياتها، ولا تاريخ لها يرجعون إليه”. بينما يؤكد الباحث العراقي في التراث خير الله سعيد، أصلها البغدادي فحسب، منذ القرن الثامن عشر، ويعدّها ثقافة بغدادية بامتياز، لاقت رواجاً شعبياً في المحافظات العراقية”.
التلفزيون العراقي بدوره، نقل مشاهد اللعبة في الستينيات، وصولاً إلى اعتمادها في بداية السبعينيات في الألعاب الأولمبية العراقية، ولم يعارضها الفقهاء، لكنها لم تنتشر في أنحاء الوطن العربي، ربما لأسباب تحتاج إلى دراسة.
طقوس اللعبة
يلعب عادةً “المحيبس” فريقان، يتراوح عددهم بين 10 و 50 شخصاً، وأحياناً يصل عدد اللاعبين إلى 100 شخص، يرتادون المقاهي والحارات الشعبية لممارسة هذه اللعبة، لكنها غالباً تجري في الملاعب الرياضية الكبيرة، في العاصمة بغداد، بين فرق المحافظات العراقية.
استشراف الخصم نفسياً
تختصر اللعبة مشهداً شعبياً ونفسياً خالصاً، فيه الفراسة والتحدي والعنفوان، إذ يضع قائد الفريق الأول “المحيبس” في يد أحد لاعبيه، الذي يراه أهلاً لتحمّل المسؤولية خلف غطاء يحجب الخصم.
تُسمى هذه العملية (تبيت)، وعند استقراره في يد اللاعب، يصيح رئيس الفريق بصوت عالٍ “بات”، أي تمّ تبييت المحبس إيذاناً ببدء الشوط.
لهذه الكلمة اتصال بالاستخدام الشائع للكلمة، يبيّت الأمر”، ثم يرفع الغطاء، ويبدأ قائد الفريق الخصم مع مساعدَيه، برحلة البحث عن الخاتم وإيجاده، إذ يجب على لاعبي الفريق الذي يخبّئ الخاتم، أن يمدّوا أيديهم أمام وجوههم.
لكن كيف لشخص أن يعثر على الخاتم من بين أيدي، يتجاوز عددها أحياناً 100 يد وأكثر، والقبضات مسدودة بإحكام على المحيبس؟
سيكولوجيا الخصم بين الخوف والثبات
يمدّ الجميع أيديهم إلى الأمام باتجاه الفريق الخصم، ويطرقون نحو الأسفل، لكي لا تظهر عيونهم مباشرة أمام قائد الفريق الآخر، الذي يحاول أن يصرخ بهم قائلاً: “العب وخوش العب”، أي العب والعب جيداً”.
تبدأ من هنا أوّل خطوة نحو إيجاد “المحيبس”، وهي الثقة التي يعلنها أمام الملأ بـ “العب جيداً”، مرسّخاً لدى الجميع، بأنه على دراية وخبرة في استشراف النفوس، وقراءة بواطن الرجال.
الكلّ يطرق وجهه نحو الأسفل، في تمويه وتعتيم على الشخص حامل المحيبس. لكن رئيس الفريق يصرخ أحياناً قائلاً: “كل الأيدي اليسرى أو اليمنى، تُفتح، أي ليس فيها الخاتم، وأحياناً، يذهب الشخص العارف في اللعبة ولديه سجّل حافل بها، مباشرة إلى يد واحدة فحسب، من بين خمسين يد وأكثر، ويقول: “هات الخاتم”.
إذا كان الخاتم معه، فيعطيه له فوراً، وإذا لا يقول اللاعب الذي لديه الخاتم “بات”، وهي كلمة مرادفة لاسم اللعبة، وهنا ينتهي الشوط، ثم تبدأ الكَرّة من جديد. إذ يتفق الطرفان على عدد معين من الأشواط، وبعد انتهاء اللعبة، يتمّ توزيع الحلوى العراقية “زلابية وبقلاوة”، فاللعب ممنوع لقاء المال.
أنثروبولوجيا الخوف
تعتمد اللعبة على سيكولوجيا “المُشتبه به”، وكأن لسان حاله يقول “كاد المُريب أن يقول خذوني”. والمثل شطر من بيت للشاعر ابن سهل الأندلسي، “هيهات لا تخفى علاماتُ الهوى..”، إذ يبدو الشخص الذي يحمل “المحيبس” قلقاً ومتوتّراً، يتصبّب عرقاً أحياناً، جازِعاً من مسؤولية حمل الخاتم.
يجعل صوت رئيس الفريق صارِخاً بالمجموعة، فضلاً عن تحديقه إلى العيون، الجميع في حالة من الخوف والذعر. الخوف هنا، طريقاً إلى كشف السرّ، مهما يحاول اللاعب الخائف إخفاء ذلك. وهكذا، تُستخدم أقدم صفة أنثروبولوجية، في كشف أسرار لعبة تراثية، ليس بين أفرادها الحقد أو المكيدة والانتقام.
أعرف الخائن من عينيه
هل يستطيع قائد الفريق، أن يحزر مكان الخاتم، إذا كان الجميع معصوبي العيون مثلاً، الجواب: لا يستطيع! فالعين دليل كبير على الحالة النفسية، وهي تشي بالشخصية، وهكذا قيل “الحب من النظرة الأولى” استشرافاً للعين.
وثمّة مقولة شهيرة لصدام حسين حين أعدم رفاقه عام 1979، أخذت العراق كله على محمل الشكّ والاتهام: “أعرف الخائنَ من عينيه”.
ينبغي على الشخص أن يخفي عينيه، أو يغطي وجهه بقناع أو كوفيّة، كما لدى رجال المقاومة لئلا ينكشف أمره؛ لا تشي العينان بسرّهما إلا والوجه مكشوف، في سيماء كاملة للاستشراف والمعلومات، فتشكّل مع الوجه علامات دلالية.
الوجه امتياز إنساني
أما إذا تمّ إخفاء الوجه، فتبدو المهمة صعبة، ولذلك يطرق فريق اللعبة نحو الأرض، بغية التستّر وإخفاء الوجوه، ما يجعل الفِراسة صعبة ومعقّدة.
يقول دافيد لوبروتون في كتابه “أنثروبولوجيا الوجوه”: “إن الوجه هو امتياز إنساني”، ومن خلال دراسته الوجوه في اللوحات والنحت والصور الفوتوغرافية، يستشرف الكاتب قيم الجمال والقبح والعواطف الإنسانية.
بدأت علاقتنا بوجوهنا عن طريق المرآة، وعن طريق انعكاس صورتنا على صفحة المياه مثل نرسيس، ومن هناك أصبح للوجه حيّزاً وجودياً خاصاً لدى الإنسان. اللافت، هو بحث لوبروتون في العنصرية والتهميش والإقصاء من خلال الوجوه، كما يحدث الآن في العنصرية، تجاه الوجوه من أصل أفريقي أو عربي أو آسيوي.
الشأن العسكري في اللعبة
عندما تتقدّم الجيوش في الحروب، ترسل فريقاً يستطلع المكان، ويجمع معلومات عن العدو (استخبارات). وفي ضوء ذلك، تتقرّر خطة الهجوم.
في هذا السياق، يستطلع قائد الفريق وجوه اللاعبين، وأحياناً تكون لديه معرفة اجتماعية مسبقة بشخصية بعضهم، ثم يعطي توجيهاته إلى مساعدَيه بجمع معلومات عن انفعالات أعضاء فريق الخصم النفسية، فيتداولون معاً في شأن أمر “المحيبس”، أي بما يسمّى عسكرياً “تحليل المعلومات”.
مؤهلات القائد في اللعبة
ثمّة رأي شائع عن الشعب العراقي، وهو ميله إلى القيادة والسيطرة والإقدام. وعليه، فإن معظم الثورات والحروب والقتال، شارك العراق فيها، تاريخياً منذ الحضارة السومرية وإسلامياً، ولغاية مشاركة الجيش العراقي في حرب يونيو وأكتوبر، وصولاً إلى الاحتلال الأميركي.
هكذا هي خبرته في تأهيل القادة وتدريبهم على شؤون السيطرة والمُلك، وهو ما تحتاجه تلك اللعبة، فضلاً عن الحماس والاندفاع والعنفوان، وهي خصال معروفة عن العراقيين.
المصدر : الشرق