أخبارثقافة عالمية
5 مليارات سنة في كتاب من 12 فصلاً للبريطاني هنري جي
هل الحياة ستختفي من على الأرض؟ طبعاً، وهذا أمر يعرفه الجميع، لكن الكاتب البريطاني، وعالم الحفريات، ورئيس تحرير المجلة العلمية الرصينة “Nature”، هنري جي، حدّد ذلك بعد مليار سنة تقريباً، في كتابه “قصة قصيرة جداً للحياة على الأرض”، الذي صدرت ترجمته الفرنسية عن دار نشر “جان كلود لاتيس” في باريس 2024.
وفي كتابه المَبني على شكل حكاية ممتعة وسلسة للقراءة، تبدأ بالعبارة المعروفة “كان يا مكان”، لكن شخصيات وأحداث حكايته واقعية وحقيقية، لأنها مُستلهَمة من رصانة النتائج العلمية، المؤسّسة على البحث والبراهين.
الحياة كرة ثلج عظيمة
إن اختفاء الحياة وظهورها من جديد، هو نتيجة عوامل تسهم فيها تطوّرات وتغييرات عظيمة في بنية كوكب الأرض. وهو أمر ليس جديداً، بل حدث على الأقلّ مرتين. أبرزها وقع قبل نحو 250 مليون سنة، عندما اختفى نحو 90% من الأنواع الحيوانية الموجودة على الأرض.
ووفقاً لحساب الزمن الجيولوجي، قبل 10 آلاف سنة فقط، أدى الانقراض الذي حدث في نهاية العصر الجليدي، إلى اختفاء جميع الحيوانات تقريباً. هذه الحالة الأخيرة، تسبّبت فيها كمية هائلة من الأوكسجين الحرّ، التي أدّت إلى انتقاء ثاني أكسيد الكربون، إلى حدّ تحوّل كوكب الأرض إلى “كرة ثلج عظيمة”.
وعطفاً على هذا الطرح، هل سيتحوّل كوكبنا مع التغيّر المناخي، الذي يحذّرنا منه العلماء في كل مؤتمر مناخي عالمي، إلى “كرة نار ملتهبة”؟
نشيد النار والجليد
من خلال الحديث أعلاه، يسهل علينا فهم الهدف من تسمية الفصل الأوّل من الكتاب بـ”نشيد النار والجليد”، بحمولته الشعرية.
يقول الكاتب: “بدأ كل شيء قبل 4.6 مليار سنة، الشمس والأرض والنظام الشمسي. الأرض كانت عبارة عن كرة نارية منصهرة تماماً لا تفتأ تتحرك باستمرار، تتكاثر البراكين على سطحها، فتشكّل تضاريسها وتعيد تشكيلها، ناشرة حِمماً ملتهبة”.
ويضيف: “إنها فترة عملية تزحزح الصفائح التكتونية المعروفة، التي انتقلت من وحدة متكاملة إلى تشقّقها الكبير، وكوّنت القارات الخمس. ثم أعقب ذلك تكاثف بخار الماء في الغلاف الجوي، وتساقط الأمطار لملايين السنين، ما شكّل في الأخير المحيطات”.
وبين النار والماء، بين هذين الضدّين، وُجدت الحياة. وتحديداً في قاع البحار. وهي في رأي الكاتب مثل “همس، أو ظل شبح، أو ابتسامة في نصف حلم، وُجدت في بلّورة صغيرة، لكنها صلبة من معدن الزيركون، يعود تاريخها إلى 4.1 مليار سنة”.
“وجعلنا من الماء كل شيء حي”
يشرح الكاتب أن “الحياة ظهرت في أغشية لزجة غير مرئية، متخفّية داخل شقوق الصخور، تشبه غرابيل مليئة بالثقوب، تتغذّى على معادن معيّنة وعلى الطاقة، وتُهمل ما لا يصلح لها. وحدث أن تحوّل الأمر إلى فقاعات لها نظام كيميائي داخلي خاص، تكاثرت وتناثرت، حرّة طليقة”.
وأضاف: “تعالت هذه الأنواع من فقاعات الصابون المغطاة بالرغوة، مثل قبضات يد صغيرة، وكأنها تحدٍ لعالم لا توجد فيه حياة. ثم شرعت الكائنات الحيّة تتجمع بالمليارات، لتكوّن الشعاب المرجانية، وهي هياكل يمكن رؤيتها من الفضاء. فتنامت الحياة من خلال ظهور بكتريات متحرّكة، في عالم صامت وحارّ، قبل أن توجد البكتريات ذات الخلية الواحدة، التي تستطيع مقاومة كل شيء، والاتحاد فيما بينها والتجمّع، فكان أن تجلت الخلية ذات نواة”.
هذه الأخيرة عبارة عن “مكتبة ومخزن معلوماتها الجينية وذاكرتها وتراثها”، ومن ثم حدث التبادل بين الخلايا لهذه المعلومات، فتناسلت من بعضها البعض، وصارت أجساداً عضوية. طحالب وفطريات، ما لبثت أن غادرت ماء البحر نحو ماء البرك. كل شيء من الماء إلى الماء، ثم حدث الانتقال إلى اليابسة.
ورغم الثورات الجيولوجية العظيمة التي “تزعزع الكوكب بقوة، وتتركه خامداً نائماً في مراحل طويلة من البرودة، أو من الحمأة، تشبّثت الحياة بحضورها الجنيني. فكان أن ولد الإسفنج ذي القدرات على اختزان الطاقة والغذاء، عبر الامتصاص والتمدّد. تلته الكائنات الفقرية من مختلف الأنواع. الديناصورات المتنافسة التي طالها الانقراض بعد “انفجار رجّ الأرض رجّاً مسبقاً، وأغلقها بشكل أخرق، فأخلت السبيل لظهور الثدييات المختلفة المتعددة الأشكال والأحجام”.
وما يسترعي الانتباه، هو وتيرة الظهور والاختفاء بحسب ظهور أعضاء جديدة في جسم الإنسان، ووظائف جديدة، أدت إلى ظهور مختلف المخلوقات السائرة والسابحة والمُحلّقة.
وما يقال عن الحيوانات، ينطبق أيضاً على النباتات التي عرفت بدورها ثورات، وأهمها ظهور الورود والزهور، وبروز دورها في تلقيح النباتات، بمساعدة الحشرات التي رافقتها منطقياً في الظهور للاضطلاع بهذا الدور الحاسم. ثم شاء الخلق أن يُعمِّر الإنسان الأرض.
انقراض ثم انبعاث
هكذا في كلّ مرّة يحدث انقراض ثم انبعاث للحياة. هي سلسلة من التكيّف والمسايرة بحسب ما تفرضه حالة الماء، وحالة اليابسة، اللتان تتسمّان بالحركة الدؤوب التي لا تهدأ. وهذا يفرض نزعة البقاء والمثابرة من طرف الأحياء.
في هذا الصدد، يؤكد الكاتب “أن الحياة على الأرض، بكل الدراما التي تشهدها، يحكمها شيئان فقط، أحدها هو الانخفاض البطيء في كمية ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، والآخر هو الزيادة المستمرة في لمعان الشمس”.
وهذا ما يفسّر كيف كانت طيلة آلاف السنين، توجد المناطق الرطبة في القارة الإفريقية، وهي بمثابة “جنة عدن” حقيقية، تحيط بها صحاري قاحلة. وتفسّر أيضاً، كيف تحوّلت هذه الصحاري إلى مراعي خصيبة، قبل أن يطالها الجفاف، وصارت أحواض ملح كبيرة، في بوتسوانا.
ويروي هنري جي كل ذلك بإيجاز مدهش، يقدّم المعلومة العلمية بالأرقام والإحصاءات والتدقيق الزمني، من دون أن يسقط في فخ الطرح الجاف، الذي يميّز الاجتهادات الأكاديمية العلمية.
ووصفت مجلة “التايمز” الكتاب بأنه “رحلة مبهجة عبر مليارات السنين. إن جي هو كاتب جذّاب، يتلاعب بالفكاهة والدقّة والجدل والشعر، لإثراء روايته المتداخلة بشكل لا يصدّق. لقد أعطى معنى واضحاً للقصص المعقّدة جداً”.
وبحسب الكاتب، “فإن زمن وجود البشرية الذي يبدو غير ذي قيمة كبرى في حسابات الأزمنة الجيولوجية، لن يدوم طويلاً. سوف نرحل خلال لحظة، ولن نترك أي أثر خلفنا. إن ذروة الكربون التي ساهمنا فيها، والتي تقلقنا كثيراً، مرتفعة، ولكن ستكون محدودة للغاية”.
وبرغم ذلك، يُعدّ الإنسان الكائنَ العاقل، المفكّر، والمتّسم بالوعي الذاتي. وبالتالي رعي الحيوانات وقطف الخضار والفواكه وطهي الطعام. أي أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي أدرك في البداية مكانه في النظام الكوني وعلى الأرض. كما أدرك في السنوات الأخيرة “الضرر الذي يسبّبه للعالم، فشرع بالعمل للحدّ منه”.
ويرى الكاتب أن كل ذلك يستلزم استحضار واجب الحفاظ على ما لدينا، والتمتّع به بشكل أفضل وأجدى، في انتظار اليوم الأخير.
وفي الفصل الأخير من الكتاب، يتطرّق هنري جي إلى المستقبل، قائلاً: “الاختفاء حتمي لكل شيء، بالشيخوخة أولاً أي التقدّم في العمر، على مستوى الأفراد، وبالانقراض التدريجي للأنواع والكواكب على المستوى الجامع في الكون”.
ويرى أن “مشاهدة كل أشكال الحياة وهي تختفي، قد يكون مثل مشاهدة فيلم يتم عرضه في الاتجاه المعاكس، حيث يتراجع التعقيد، وتتضاءل القدرة على التطوّر إلى أنواع، حتى لا يتبقى شيء على قيد الحياة، إلى حدّ أن الكوكب نفسه يموت”.
الأسلوب الأدبي مُقرّباً للعِلم
وبمثل هذه الاستعارات الأدبية التي تحمل صوراً، يجعل هنري جي كتابه شيّقاً، حتى وإن بدت بعض طروحاته صعبة التصديق، أو تحمل الكثير من الاحتمالات العلمية، بدءاً من عناوين الفصول الـ12 (أغنية النار والجليد، حيوانات تتجمّع، اختبارات العمود الفقري الفنية، الأرض، وصول السلويات، حديقة الترياسي، الديناصورات المحلقة، الثدييات الرائعة، كوكب القردة، عالم من دون حدود، نهاية عصور ما قبل التاريخ، الماضي للمستقبل)، وانتهاء بالأوصاف التي تطفر هنا وهناك.
المصدر : الشرق