مقالات

مشيخة الكويت في ذاكرة الإمبراطورية الروسية

باتت الكويت مطلع القرن العشرين محط تنافس بين ثلاث دول كبرى هي ألمانيا وبريطانيا وروسيا القيصرية على خلفية مشروع سكة حديد برلين – بغداد.

 في ظل تلك الظروف الدولية التي اتسمت بسباق أوروبي محموم على مستعمرات الدولة العثمانية – رجل أوروبا المريض – نشطت الصلات بين الإمبراطورية الروسية ومشيخة الكويت قبل أن تهب رياح الحرب العالمية الأولى وينتهي الصراع على النفوذ في المنطقة باتفاقية سايكس بيكو التي تقاسمت بموجبها بريطانيا وفرنسا تركة الدولة العثمانية.

في تلك الأثناء كانت بريطانيا تبذل جهودا حثيثة للسيطرة على مشيخات الخليج لتأمين الطريق بين مستعمراتها بدءا بمصر وانتهاء بالهند عن طريق السيطرة التامة على المحيط الهندي، وكان المشروع الألماني لمد خط سكة حديد يربط برلين ببغداد وصولا إلى البصرة والذي بدأ العمل فيه منذ نهاية القرن التاسع عشر، تهديدا لإمبراطوريتها الشاسعة ومصالحها الحيوية.

بدورها، رأت الإمبراطورية الروسية في مشروع سكة الحديد الألماني تهديدا لمشروعها الخاص بمد سكة حديد تربط طرابلس اللبنانية بالكويت، وكان من الواضح أن لا مجال إلا لتنفيذ مشروع واحد في تلك المنطقة.
صورة للكويت أخذت من ظهر الطراد الروسي “فارياغ” عام 1901

وسارعت بريطانيا إلى قطع الطريق أمام منافسيها بإعلان منطقة الخليج دولا مستقلة تحت حماية التاج البريطاني، وقبل ذلك وقعت اتفاقية سرية في فبراير عام 1899 مع حاكم الكويت آنذاك الشيخ مبارك الصباح، وضعت المشيخة بموجبها تحت حمايتها، وحظرت على حاكمها انتهاج سياسة خارجية مستقلة أو منح امتيازات لأي كان في مناطق سلطته، و لم يدر بتلك الاتفاقية أحد بما في ذلك الدولة العثمانية التي كانت المشيخة تحت سلطتها الاسمية منذ عام 1871.

وفيما قبضت بريطانيا على زمام الأمور سرا في الكويت، سعت الإمبراطورية الروسية عام 1899 إلى إقامة صلات مع السلطات المحلية هناك، فأرسلت وكلاء من التجار، ما مهد الطريق لإقامة علاقات بين المشيخة والقنصلية الروسية في بغداد.

وفيما بعد أرسلت روسيا القيصرية في مارس عام 1900 الزورق الحربي “غيلياك” إلى الكويت، حيث كان في استقباله الشيخ مبارك الصباح والقنصل الروسي في بغداد، وخلال حفل غداء بالمناسبة، عبّر حاكم المشيخة عن عدائه للسياسة التوسعية البريطانية، وألمح إلى أنه ما كان ليعارض أن تكون المشيخة تحت حماية الإمبراطورية الروسية، لكنه في نفس الوقت لم يصرح بوضوح فيما بعد عن تلك النوايا لا خطيا ولا شفهيا، في حين كان ضيوفه يجهلون تماما أن اتفاقية الحماية مع بريطانيا قد وقعت بين الجانبين.

وتلا ذلك وصول الطراد الروسي الشهير “فارياغ” إلى الكويت في ديسمبر عام 1901، وفي هذه المناسبة عبّر الشيخ مبارك الصباح عن أمله في أن تتردد السفن التجارية الروسية على المشيخة.
الشيخ مبارك الصباح رفقة عدد من ضباط الطراد الروسي “فارياغ” عام 1901

واصلت الإمبراطورية الروسية إرسال سفنها الحربية إلى الكويت، حيث وصل الطراد “أسكولد” إلى سواحلها في نوفمبر عام 1902 والتقى بسفينة حربية بريطانية هناك، ما عدته روسيا القيصرية تعديا على مجال مصالحها ودفعها إلى حشد قواتها مع فرنسا بإرسال الطراد “بويارين” رفقة السفينة الحربية الفرنسية “Infernet” إلى الكويت.

في تلك الأجواء، تواصل التنافس المحموم والاستقطاب بين الدول الأوروبية الكبرى، واستمرت بريطانيا خفية في التحكم بالكويت، في حين واصلت الدولة العثمانية توطيد تعاونها مع ألمانيا، وبنهاية المطاف وقع العثمانيون في عام 1913 اتفاقية مع بريطانيا التزموا بموجبها باحترام حدود ووحدة أراضي “مشيخات” الخليج.

فاجأت تلك الاتفاقية تماما الإمبراطورية الروسية، وتغيرت الظروف بشكل جذري باندلاع الحرب العالمية الأولى وما تلاها من توقيع اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 التي تقاسمت بموجبها بريطانيا وفرنسا المشرق العربي وملأتا “الفراغ” لنحو نصف قرن، ثم انقلبت الظروف ورحل المستعمرون وتغير اللاعبون وظل الفراغ بعد مضي قرن من الزمن على حاله، وبقيت المنطقة ساحات صراع وميادين حرب لقوى لا تزال تعمل على تفتيت المفتت، والتحكم في هذا الفراغ الذي لا يُملأ ذاتيا إلا بالرمال السافية والتناحر والهزائم والنكسات.

اترك تعليقاً

إغلاق